يشكّل الحوار بين حاضر المدينة وماضيها، أهم مراحل البحث عن قسوة هذا الحاضر وظلام المستقبل. وهذا الحوار يُعدّ أيضاً محطة مهمّة في البحث عن جواب لسؤال: لماذا يحدث ما يحدث؟ المخرج والأكاديمي اللبناني هادي زكاك فتح حواره الخاص بين حاضر بيروت وماضيها عبر معرض «في هذا المكان: شرائط لوسط بيروت» الذي يُعرض حالياً في «مركز مينا للصورة» (المرفأ) ضمن «مهرجان أيام بيروت السينمائية». معرض ينقسم ما بين عرض صور ومجموعة أفلام ممنتجة من أكثر من 50 فيلماً من أرشيف السينما العالمية، ترصد العاصمة اللبنانية في الفترة الممتدة من عام 1935 إلى عام 1975، أي قبل بداية الحرب الأهلية.يتألّف المعرض من خمس محطات مقسّمة حسب أكثر المحطات حضوراً في تاريخ السينما العربية واللبنانية لبيروت. عندما ندخل المكان، نواجه بوسترات عدة لأفلام قديمة مع صور لبيروت ونشاهد الفيديو الأول بعنوان: «أهلاً بكم في بيروت». الفيديو الذي يتكوّن من سبع دقائق ونصف دقيقة مبنية على 19 فيلماً روائياً طويلاً، يعرض مشاهد تتحدث عن شخصيات مسحورة في مدينة بيروت وقعت تحت سُلطة جمال الخيال وقسوة الواقع، لتكون هذه المحطة الأولى من محطات المعرض.

(تصوير موران مطر)


(تصوير موران مطر)

بعدها ننتقل إلى غرفة مطلّة على المرفأ وتبدأ محطة «مرفأ بيروت». نتابع من هذه القاعة فيديو تبلغ مدته 15 دقيقة، مبنية على 16 فيلماً روائياً طويلاً، تعرض مرفأ بيروت كمنصة للعمل والهجرة في الأفلام اللبنانية. كما كان حاضراً كمسرح للعمليات المشتبه فيها والتهريب في أفلام التجسس الأوروبية التي ازدهرت في حقبة الستينيات. ينتهي الفيديو بتفجير يحدث للمرفأ في أحد الأفلام الأجنبية على أثر عملية سرية، ونقتبس من هادي زكاك بوصفه عن هذه المحطة: «أصبح الخطر على مدينة بيروت مصدره المرفأ، وما يخفيه من بضاعة ومطلوبين قبل أن يختلط الخيال بالواقع».
بعدها، ننتقل إلى وسط المعرض المزيّن بإضاءة تقول لنا بأنّنا في المركز. ندخل في المحطة الثالثة «البلد». هنا، نرى طاولة دائرية وُزِّعت عليها شاشات صغيرة نتابع من خلالها فيديو تبلغ مدته 25 دقيقة مبنية على 25 فيلماً روائياً طويلاً. يعرض الفيديو منطقة وسط بيروت التي تنوعت بظهورها في الأفلام، فقد ركزت الأفلام اللبنانية والعربية على مظاهر الحداثة والبحبوحة الاقتصادية (حسب تعبير زكاك) لوسط البلد، وابتعدت عن مظاهر الفقر، إذ لعبت الرقابة دوراً في هذا البعد. لكنّ الأفلام الأجنبية اتجهت إلى الوسط التجاري والسوق الشعبي الذي يعزّز الصورة النمطية التي كانت تبحث عنها النزعة الاستشراقية لهذه الأفلام. نشاهد في الفيديو كل هذه الاختلافات الطبقية وتناقضات مظاهر الحداثة مع مظاهر الفقر، وتنوّعات الأزمات المرورية بسبب الأسواق الشعبية ومراكز السينما ومراكز الشرطة والمصارف والمكتبات، والمحالّ والمراكز التجارية.

(تصوير موران مطر)


(تصوير موران مطر)

ندخل بعدها إلى محطة خلف جدار كبير، مصمّم بخصوصية مع السماعات التي نسمع من خلالها الفيديو. الوسائد التي نجلس عليها مع عتمة خفيفة تدخلنا في ثيمة هذه المحطة «أوتيل بيروت». فيديو (مدته 23 دقيقة)، يعرض الفنادق اللبنانية في أفلام التجسس الأوروبية التي أظهرت البعد الكوسموبوليتي والرأسمالي لبيروت، على حد تعبير زكاك. كما ظهرت الفنادق في الأفلام العربية بصورة سياحية أقرب إلى البطاقات البريدية تحدث داخلها قصص الحب والخيانة.
ينتهي المعرض بمحطة «كباريه بيروت». ولهذه المحطة خصوصية أيضاً حيث ندخل إلى قاعة، مدخلها ذو لون أحمر يشبه مدخل الكباريهات وداخلها بار صغير، يُعرض على الشاشة فيديو مدته 19 دقيقة مبنية على 15 فيلماً روائياً طويلاً. عبر الفيديو، نشاهد صورة من صور بيروت عبر حياتها الليلية، حيث ارتبط الكباريه بالتنوع العالمي بين استعراضات شرقية وأجنبية في آن معاً، كما بتصوير بيروت كمدينة لـ«الخطيئة».

(تصوير موران مطر)

لم تقتصر المحطات على الفيديوهات الممنتجة فقط. بل إنّ كل محطة كان تعزّز صورة للمدينة في تلك الحقبة مع بوسترات الأفلام المعروضة، التي وجدت ضمن أرشيف هادي زكاك و«المؤسسة العربية للصورة» وأرشيف الباحث والناشر عبودي أبو جودة.
خلق زكاك رحلة في الزمان والمكان، إلى بيروت صغيرة خلقَها من خلال محطات المعرض التي توافقت خصوصية كل محطة مع المناخ الذي صمّمه لها. ندخل أولاً في الوقع السحري لمن يدخل بيروت، متورطين في تعقيداتها عبر صورة المرفأ، وخلافاتها الطبقية في صورة وسط البلد، ومجتمعها المختلط المنفتح في صورة الأوتيل والحياة الليلية وكباريهاتها.
صوِّر المرفأ كمسرح للعمليات المشتبه فيها والتهريب في أفلام التجسس الأوروبية التي ازدهرت في الستينيات


وعند سؤال هادي زكاك عن اختيار الأفلام الروائية لهذا البحث، يجيب بأنّ «الأفلام الروائية مع الزمن، تتحول إلى وثيقة مهمة عن المكان، كما أنها أعطت بعداً أنثروبولوجياً للبحث يكشف الصورة المتعددة لبيروت خلال فترة زمنية غائبة عن أذهان الناس اليوم. إنّها فترة حاضرة فقط إما عبر صورة البطاقات البريدية ببعدها السياحي الحداثي، مُقصيةً مجتمعات الفقراء، أو محصورة في نظرة استشراقية نمطية إقصائية لتنوع بيروت وانفتاحها».
كسر هذه الثنائية هو الهدف الأساسي لهذا المعرض، إذ يحاول أن يُظهر بيروت بكل تنوعها وتشعّباتها وتعقيداتها عبر محطات مكانية أساسية في تشكيل هوية العاصمة خلال فترة زمنية معنية، وهذا ما يجعل البحث بحثاً اجتماعياً سياسياً في الدرجة الأولى يحاول أو يكتشف علاقة المجتمع مع الصورة/ المكان ومدى تأثير أحدهما على الآخر.

ركّزت الأفلام اللبنانية والعربية على مظاهر الحداثة والبحبوحة الاقتصادية لوسط البلد


يُعدّ هذا المعرض مرحلة من مراحل مشروع هادي زكاك البحثي والتنقيبي في تاريخ لبنان وذاكرته، سواء عمله في الأفلام الوثائقية أو الكتب البحثية. فقد ألّف كتابين عن السينما: هما «العرض الأخير ـــ سيرة سيلما طرابس» (2021) و«السينما اللبنانية: مسار سينما نحو المجهول (1929-1996)» (1997) كمحاولة للحفاظ على الذاكرة والبحث في الماضي وعلاقته مع الحاضر، خالقاً حواراً مستمراً بينهما.

* معرض «في هذا المكان: شرائط لوسط بيروت»: حتى 20 تموز (يوليو) ـــ «مركز مينا للصورة» (المرفأ) ـــ للاستعلام: minaimagecentre.org