القاهرة | يبدو أن أسرة وقرّاء طه حسين (1889 ـــــ 1973)، صاحب السؤال الأهم عن «مستقبل الثقافة في مصر»، أصبحوا عاجزين حتى عن معرفة مستقبل رفاته ومقبرته، في منطقة المقطم في القاهرة، إذ انتشرت علامات «إكس» حمراء على جدران مقبرة العميد والمقابر المجاورة لها، بما يشير إلى صدور قرار بإزالتها لبناء كوبري جديد يحمل اسم الصحافي الراحل ياسر رزق، وسط حالة من التعتيم من كل الجهات الرسمية، وحتى عدم إبلاغ الأسر المالكة لتلك المقابر بأيّ شيء... فما القصة؟
المحافظة تنفي
نفى المتحدث باسم محافظة القاهرة، اللواء إبراهيم عوض، ما تم تداوله من أنباء حول إزالة قبر «عميد الأدب العربي» لإنشاء المحور، مشيراً إلى أنّ «الأخبار التي تردّدت في هذا الشأن محض شائعات، لا وجود لها على أرض الواقع، والمحافظة لم يتم إخطارها حتى الآن بمكان أو تفاصيل إنشاء محور ياسر رزق».

طه حسين في روما (أرشيف مكتبة الاسكندرية)

ومن دون رد واضح على سؤالنا حول مصير مقبرة طه حسين في حال كانت ضمن مخطط إنشاء الكوبري، لم يقدّم عوض سوى إجابة واحدة: «كل ذلك شائعات لبثّ القلق وتقويض ثقة المواطنين»! الغريب أنّ تصريحات متحدث المحافظة التي تنفي إخطارها حتى الآن بمكان أو تفاصيل إنشاء «محور ياسر رزق»، تأتي بعد إصدار المحافظة نفسها بياناً عن تفاصيل ذلك المحور في نيسان (أبريل) الماضي جاء فيه: «يبدأ المحور من التقاطع مع «محور سميرة موسى» الجديد، وينتهي ليتقاطع مع «شارع صلاح سالم» والأوتوستراد. ويزيد طوله عن 7 كلم تقريباً وعرض 5 حارات، كما سيمرّ على موقف الأوتوبيسات في نهاية شارع 9 في المقطم أيضاً. والهيئة الهندسية للقوات المسلحة هي التي ستقوم بتنفيذه». تفاصيل جاءت بعد حديث الرئيس عبد الفتاح السيسي بشكل مباشر عن هذا المحور خلال إحدى جولاته التفقّدية.

المعدّات وصلت رغم النفي!
في الوقت نفسه، قالت مها عون، ابنة حفيدة طه حسين، إنّه رغم نفي محافظة القاهرة هدم المقبرة لإنشاء «محور ياسر رزق»، فإنهم فوجئوا بوصول معدات إلى الشارع الذي يقع خلف المقبرة. كما أنّ الأسرة علمت أن هناك مخطّطاً لتطوير المنطقة لكنه ليس نهائياً، وأن تلك العلامات تعني أنه يُحتمل حدوث هدم. وأكدت في الوقت نفسه عدم تلقّيها معلومة رسمية حتى الآن. وتابعت في مداخلة مع برنامج «كلمة أخيرة» على قناة «ON E» إن أسرتهم وجدت علامة حمراء عند مدخل القبر، لكن لم يتسنَّ لهم الحصول على معلومات تفسر ذلك. وأشارت إلى أنّ هدم المقبرة سيكون مؤلماً على المستوى النفسي. وطالبت بتقديم توضيح لهم بما سيتم تنفيذه: «نطلب عدم هدم المقابر. دولتنا عظيمة ولدينا مهندسون عظماء يمكنهم بمنتهى السهولة البناء والتطوير بعيداً عن المقابر».
ويهدد «محور ياسر رزق» المزمع إنشاؤه الكثير من مقابر الرموز التاريخية في المنطقة أيضاً، إذ يحكي الصحافي عبد القادر شهيب في مقاله في جريدة «فيتو» بعنوان «يوسف الصديق المظلوم حياً وميتاً» الكثير من التفاصيل حول حالة التعتيم المحيطة بالموضوع، قائلاً: «ذهبت لزيارة زوجتي نعمت المدفونة بجوار والدتها وإخوتها في مقبرة والدها بطل ثورة يوليو يوسف صديق الذي لولاه، لكانت حركة الضباط الأحرار قد أصابها الإخفاق. لكنني فوجئت أن المقبرة عليها العديد من العلامات الحمراء مع مقابر مجاورة ومحيطة بها. وبعد التقصّي الصعب لأنه تم التنبيه بعدم إبلاغ أصحاب المقابر بالأمر، عرفت أن كل هذه المقابر قد تم تحديدها لإزالتها لإقامة محور وكوبري جديد يربط منطقة المقطم بوسط المدينة. ومن بين هذه المقابر مقبرة يوسف صديق، ومقبرة طه حسين الملاصقة لها». وتساءل شهيب: «كيف يتم الاستعداد لإزالة مقابر من دون إبلاغ أصحابها باكراً بعد توفير مقابر بديلة مناسبة لهم حتى يتسنّى لهم التحضير من جانبهم لنقل رفات ذويهم وأهلهم، إذا كان لا مناص من إقامة هذا المحور الجديد في المسار المختار ولا يوجد مسار بديل آخر له؟ أم مسؤولونا اعتادوا فقط على التعامل مع المواطنين بأسلوب المفاجأة والصدمة وفرض الأمر الواقع عليهم؟!».
جاء ذلك فيما رفض كل من متحدث وزارة الثقافة ومتحدث وزارة الآثار الإدلاء بأي تصريح، وللمصادفة كانت إجابتهما واحدة: «ليس للوزارة علاقة بالأمر، والمشروع تحت إشراف الهيئة الهندسية للقوات المسلحة».

استنكار المثقّفين
ثارت حالة من الجدل والاستنكار في الوسط الثقافي حول هدم مقبرة صاحب «الأيام». يقول الروائي إبراهيم عبد المجيد: «طه حسين وغيره من الرموز هم التاريخ الحقيقي للبلاد، وهم من صنعوا النهضة الفكرية والإنسانية في الأمة المصرية، ولا يجب النظر إلى كل شيء على أنه اقتصاد فقط. والمفترض أن يصنعوا الطرق في أماكن أخرى أو عبر أنفاق أو جسور معلَّقة، مع مراعاة أنّ حرمة الموتى مقدّسة لدى المصريين منذ القدم». ويتابع: «طه حسين جزء لا يتجزأ من تاريخ مصر، حارب من أجل الفقراء والتعليم المجاني. وحين كان يزور بلداً عربياً، كان الناس يخرجون بالآلاف لاستقباله؛ لأنّ ثقافته كانت عن الأمة العربية والنهضة، وكان قدوة لآخرين هناك. وهو الذي طالب بأن يشمل التعليم في الأزهر مختلف العلوم، لينفتح طلابه على العالم ويخرجوا من ضيق دائرة التعليم الديني».
يصف الكاتب محمد أبو الغار مجرد التفكير في إزالة مقبرة طه حسين بـ«الكارثة»، قائلاً: «إذا تمّت إزالة مقبرة طه حسين، وهو أمر ممكن ببساطة في عصرنا الحالي وكارثة حدثت لمقابر شخصيات تاريخية هامة، فإن ذلك يعني أننا نعيش عصراً انخفض فيه مستوى المهندسين والمخطّطين المسؤولين عن بناء هذا الكوبري. أصبح تفادي هدم آثار ومبانٍ هامة واستخدام خطط بديلة أمراً صعباً على مستواهم»، مضيفاً: «لن يغفر التاريخ لجميع المسؤولين عن هذه الكوارث، كباراً وصغاراً، ما قاموا به، وسوف تزين أسماؤهم كتب التاريخ والجغرافيا بأنهم هم الذين أضاعوا تاريخ مصر وحضاراتها وأعاقوا تقدمها».
في السياق نفسه، قال التشكيلي مصطفى رحمة: «هدم مقبرة طه حسين فضيحة قومية تهزّ اسم وسمعة مصر، لكنها لا تهز شعرة من رأس السيد رئيس الوزراء ولا وزيرة الثقافة، لأن المهم تنفيذ الأوامر وبالأمر المباشر ببناء كوبري في المكان!». وقارن رحمة بما يحدث في مصر الآن وبين فرنسا: «في فرنسا لديهم «البانتيون» (مقبرة العظماء) ولأنّ باريس مدينة النور، مركز العلم والفكر في عصر التنوير، فقد قدّرت طه حسين حق تقدير، في حين لم نُحسن نحن تقديره حياً وميتاً»، مشيراً إلى قول الأديب الفرنسي أندريه جيد: «الأدب العربي من دون طه حسين... كباريس من دون معالمها».

مقبرة طه حسين

وفي مقالة في جريدة «الأهرام»، استنكر الشاعر فاروق جويدة ما تردّد عن هدم المقبرة تحت عنوان «طه حسين وحرمة الموتى»، متسائلاً: «كيف يُهدم قبر طه حسين، وهو رمز من أهم وأكبر رموز الثقافة العربية ويمثل جزءاً عزيزاً من تاريخ الفكر العربي؟ أحفاد طه حسين يتساءلون كيف يُهدم قبر صاحب أكبر دعوة فى تاريخ التعليم في مصر؟ من نادى بأن التعليم حقّ للمصريين كالماء والهواء، وهو أحد أكبر مثقفي مصر. لقد تم هدم بعض مقابر رموز مصر الفكرية والسياسية والثقافية». وتابع جويدة: «منذ سنوات، تم هدم «مقبرة الخالدين» وكانت تسمى «مقابر الصوفية» لإنشاء محور جديد. قيل يومها إنّ عالم الاجتماع الشهير ابن خلدون كان مدفوناً في هذه المقابر وطلبت تونس نقل رفاته إلى وطنه. وفى كل دول العالم، تحتفي الشعوب بمقابر الخالدين من أبنائها، ويقيم بعضهم مقابر جماعية تحيطها الأسوار، بينما قد يُنقل رفات طه حسين إلى مكان آخر كي يقام محور جديد»، مؤكداً أنّ «الأمر يتطلب حسم هذه القضية بعدما تحولت إلى قضية رأي عام في العالم العربي».
على الجانب الآخر، كان للشاعر والصحافي محمود خيرالله رأي آخر، إذ قال: «يأسف المرء طبعاً على هدم مقبرة أي إنسان، خصوصاً إذا كان مفكراً في حجم وتأثير وعقلانية طه حسين، لكن الحقيقة أن بقاء الأحياء القديمة في القاهرة اليوم صار أمراً غير قابل للاستمرار، واحتياج القاهرة إلى شرايين وطرق كثيرة بات ضرورة ملحة، وأنا لا أعتقد أنّ طه حسين لو كان حياً، كان سيعترض على إزالة مقبرته، أو نقلها إلى مكان آخر من أجل المنفعة العامة. لقد عاش الرجل يفكر من أجل إسعاد البشر، والمؤكد أنه لن يضارّ ميتاً بنقل مقبرته من أجل المنفعة العامة. لا شك في أنّنا لا نحتاج أن نعبّر عن احترامنا لطه حسين ببناء مقبرة على شكل «هرم» مثلاً لأنه ليس إلهاً ولا نبياً، بل يمكننا أن نوفر كتبه في كل بيت مصري ونقرر مؤلفاته على طلبة المدارس والجامعات لكي نكرّمه بما يجعل تأثيره باقياً، ويمثل أهمية أكبر من الاحتفاظ بمقبرته وسط الطريق العام».

طلب إحاطة وحيد
بدورها، تقدمت النائبة مها عبد الناصر، عضو مجلس النواب عن الحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي، بطلب إحاطة موجّه للحكومة المصرية، بشأن ما سمّته «التأثير السلبي لمحور ياسر رزق ومشروع كورنيش المقطم على مقبرة طه حسين ومقابر القاهـرة التاريخية»، موضحة أنّ «هناك تساؤلات متعددة حول هذه المشاريع وأولوياتها مقارنة بالتحديات الاقتصادية للدولة المصرية في الوقت الراهن، خصوصاً أنّه يجب أن تخضع هذه المشاريع للعديد من الدراسات الخاصة بتقييم الآثار البيئية والاجتماعية والاقتصادية وفي مقدمتها الحوار المجتمعي، وهذا لما يحدث ولا تتوافر أي معلومات رسمية متاحة عن تأثير هذا المشروع على مستقبل القاهرة بغضّ النظر عن القيمة التاريخية والرمزية الهامة لمدفن طه حسين وأهمية الاحتفاء بمرقده الأخير في سياق الاحتفال بالقاهرة كعاصمة للثقافة الإسلامية هذا العام». كما طالبت الحكومة بالإعلان عن مسابقة دولية، للحفاظ المتكامل على منطقة جبانات القاهرة التاريخية للوصول إلى أفضل الحلول المستدامة التي تأخذ في الحسبان تحديات التنمية من دون تجاهل القيم التاريخية والرمزية لهذا الموقع المتفرّد».
يهدد «محور ياسر رزق» المزمع إنشاؤه الكثير من مقابر الرموز التاريخية في المنطقة


وكانت الحكومة المصرية قد دشّنت عام 2014 أكثر من 600 محور ونحو 21 طريقاً جديداً، بكلفة تتجاوز الـ 5.3 مليارات دولار وفق ما أعلنته وزارة النقل. لكن بعض تلك المشاريع قوبلت بانتقادات من جمعيات مهتمة بالتراث، إذ أزالت عشرات المدافن، من بينها مقابر شخصيات تاريخية، في منطقة «قرافة المماليك» التي تعود إلى القرن السابع الميلادي، وتضم مدافن سلاطين وأمراء من المماليك وشخصيات تاريخية وكثير من العامة. كما كرّرت الأونيسكو شكواها من «الإهمال الذي تتعرض له المنطقة، وهددت بشطبها عن قائمة التراث العالمي، ونقلها إلى قائمة التراث المعرّض للخطر».



على الهامش
يُعد طه حسين (1889ــــــ 1973) أحد أبرز الأسماء في الحركة الأدبية المصرية الحديثة، فضلاً عن دوره المؤثّر في انتشال أفكار المجتمع العربي ككلّ من منطقة الجمود والتقليد، وهو الدور الذي تحمّل بسببه الكثير من الهجوم طوال حياته، بل إنّ أفكاره لا تزال حتى الآن قادرة على تحريك المياه الراكدة في نهر الثقافة العربية. في جنوب مصر، حيث ولد طه حسين، كان فقدان البصر يعني أن تهب الأسرة ذلك الطفل لحفظ القرآن ودخول الأزهر لأنه لن يجيد العمل في شؤون الأرض والزراعة. لكنّ «العميد» في صغره كان يتميز عن أبناء قريته بذاكرة قوية وذكاء متّقد، ما مكّنه من تعلُّم اللغة والحساب أيضاً في فترة وجيزة وليس حفظ القرآن فقط.
بعد ذلك، أمضى أربع سنوات في الأزهر لكنها مضت عليه «كأنها أربعون عاماً» وفق ما يذكر في سيرته «الأيام»، إذ كره جمود مشايخ الأزهر وطريقتهم التقليدية في الحفظ والتلقين وعقم المناهج. لذلك كان أول المنتسِبين إلى الجامعة المصرية عام 1908. وفي عام 1914، حصل على درجة الدكتوراه عن رسالته «ذكرى أبي العلاء» التي أثارت ضده غضب المشايخ وعلماء الدين، حتى إنّه اتهموه بـ «الزندقة والخروج على مبادئ الدين»!
خلع طه حسين عمامة الأزهر في فرنسا، حيث أوفدته الجامعة المصرية للدراسة، ليبدأ بإعداد أُطروحةَ الدكتوراه الثانية وموضوعها «الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون». اجتاز دبلوم الدراسات العليا في القانون الرُّوماني، ثم عمل بعد عودته أستاذاً للتاريخ اليوناني والروماني في الجامعة المصرية، ثم أستاذاً لتاريخ الأدب العربي في كلية الآداب، ثم عميداً للكلية، وعميداً للأدب العربي كله بسبب ما خاضه من معارك ضد جمود المشايخ، كان أبرزها معركة كتابه الشهير «في الشعر الجاهلي». أيضاً، لعب العميد دوراً مؤثراً في قضايا التعليم، إذ تولى عدداً من المناصب الهامة، كمستشار لوزير المعارف، ثم مدير لجامعة الإسكندرية. وفي عام 1950، أصبح وزيراً للمعارف، وقاد الدعوة لمجانية التعليم وإلزاميته، وكان له الفضل في تأسيس عدد من الجامعات المصرية، فضلاً عن توليه رئاسة تحرير جريدة «الجمهورية» في عام 1959.
أضاف إلى المكتبة العربية عدداً من العناوين والمؤلفات الهامة، أبرزها: «على هامش السيرة»، و«حديث الأربعاء»، و«مستقبل الثقافة في مصر»، و«مع المتنبي»، وغيرها الكثير من الكتب التي تحمل أفكاراً قادرة على إكمال مسيرته ومعاركه حتى اليوم.