جنين | بات واضحاً أن العدو يريد تثبيت معادلة جديدة في جنين، بعدما تحوَّل «عشّ الدبابير» - كما سمّاه آرئيل شارون يوماً - إلى منطلق لتنفيذ عمليات في الداخل المحتلّ، بل إلى بؤرة مقاومة لا تفتأ تزداد شراسة، وفق ما أكدته مواجهات الأمس. لكن الإرادة الإسرائيلية تلك، والتي يحاول العدو إلى الآن إنفاذها بعمليات بـ«التقسيط» بعيداً من هجوم واسع النطاق سيكبّده الكثير، لا يبدو أنها قريبة المنال؛ بالنظر إلى أن اعتقال «مطلوب» واحد كلّف الاحتلال حياة جندي من وحدة النخبة «يمام»، فكيف بمطاردة قائمة طويلة من «المطلوبين»، يُسجَّل بوضوح توسّعها يوماً بعد يوم. وإذا أضيف إلى ما تَقدّم تحذير فصائل المقاومة في غزة من أيّ محاولة لكسر معادلة «جنين - غزة»، وتأكيدها أنها لن تسمح بالاستفراد بمقاومي جنين، يضحي المشهد شديد التعقيد والخطورة والحراجة، بالنسبة إلى تل أبيب
تستمرّ المطاردة الساخنة الإسرائيلية للمقاومين المطلوبين في جنين، وفق مبدأ «تصفية الحساب بشكل منفرد» وبضربات خاطفة، في محاولة لتحييد أكبر عدد ممكن من المقاومين الفاعلين، أملاً في إخماد نار الاشتباكات المشتعلة على امتداد الضفة الغربية المحتلة. لكن في الضربة الإسرائيلية الأخيرة، تعرّض العدو لصفعة فلسطينية غير متوقّعة، بمقتل أحد جنود نخبته. وبدأ الاحتلال عمليته العسكرية صباح أمس كالمعتاد، باقتحام حيّ الهدف الملاصق لمخيّم جنين بقوّة خاصّة قرابة الساعة السادسة، ثمّ أتبعها بتعزيزات عسكرية كبيرة من آليات الجيش. «أطلق جنديّ صاروخَ كتفٍ تجاه باب منزل عائلة المطارَد محمود الدبعي، فاستيقظ جميع سكّان المنزل، ثمّ نادى الجنود عبر مكبّرات الصوت طالبين من الدبعي تسليم نفسه»، وفق ما ترويه مصادر «الأخبار»، مضيفة أن قوات الاحتلال أخرجت كلّ سكّان المنزل منه. وتفيد المصادر بأن «محمود انخرط في صفوف سرايا القدس مع المقاومين الشهداء جميل العموري وعبدالله الحصري وأحمد السعدي، وعمل بشكل سرّي حتى اكتشافه قبل عدّة أشهر، ووالده هو أحد قياديّي حركة الجهاد الإسلامي في جنين».
وانتهج العدو عدّة أساليب لإجبار الدبعي، وهو أحد مقاومي «كتيبة جنين» في «سرايا القدس» والهدف الرئيس لعملية أمس، على تسليم نفسه، وأوّلها استخدام والدته درعاً بشرياً، وإرغامها على الطلب من ابنها الخروج، لكن محمود رفض الاستجابة للطلب، وردّ بإطلاق النار على قوّة «يمام» الخاصة. وتزامناً مع إطلاق الجنود قذائف «أنيرجا» وصواريخ محمولة على الكتف ومضادة للدروع في اتّجاه المنزل المحاصر، اتّبع العدو أسلوب «طنجرة الضغط»، مُحكِماً الحصار على المنزل من كلّ المحاور، ثمّ زاد من كثافة إطلاق النيران عليه مع استقدام جرّافة عسكرية إلى المكان. لكنّ مقاومين آخرين هرعوا إلى الشوارع ومحيط حيّ الهدف في محاولة لفكّ هذا الحصار، لتندلع اشتباكات مسلّحة عنيفة، بينما رفض الدبعي تسليم نفسه وقاتل حتى النهاية ونفاد ذخيرته قبل أن يتمّ اعتقاله.
سيشكّل مقتل الجندي نوعم راز محطّة هامّة جدّاً وخطيرة بالنسبة إلى الإسرائيليين


بدا المشهد أمس أشبه بحرب شوارع حقيقية؛ إذ خاض أكثر من 15 مقاوماً الاشتباكات المسلّحة مع جيش العدو وقوّاته الخاصة في محيط مخيّم جنين. وبينما خلّفت المواجهات إصابة 13 فلسطينياً، أعلن الاحتلال مقتل جندي من قوّات النخبة التابعة له، «يمام»، بعد ساعات من إصابته. ويَنقل الصحافي الإسرائيلي، تال ليف رام، عن ضابط إسرائيلي كبير قوله إن جنين شهدت، صباح أمس، أكبر إطلاق نار منذ نحو 20 عاماً، حيث «أطلق المسلّحون آلاف الطلقات نحو القوات المقتحِمة». ويبيّن مصدر مطّلع، لـ«الأخبار»، أن «الجندي الإسرائيلي القتيل أصيب برصاص المقاومة في نهاية العملية العسكرية عند انسحاب العدو، بعد اعتقال المطارَد الدبعي، ونقلتْه مروحية عسكرية من المكان»، مضيفاً أن «الجندي لم يُصَب خلال الاشتباك عند حصار المنزل، بل في المناطق المحيطة». وبحسب وسائل إعلام إسرائيلية، فإن القتيل هو نوعم راز، ويبلغ من العمر 47 عاماً، ويعمل في وحدة «يمام» الخاصة منذ 24 عاماً.
وسيشكّل مقتل راز محطّة هامّة جدّاً وخطيرة بالنسبة إلى الإسرائيليين؛ إذ لأوّل مرّة منذ 20 عاماً، يُقتَل جندي خلال اقتحام في جنين. كما أن الحدث سيجعل «الشاباك» يضاعف حساباته لخطر المقاومين المتواجدين حالياً في المدينة ومخيّمها، خصوصاً أن هذا الخطر لم يَعُد مقتصراً على إمكانية خروج شبّان من «عشّ الدبابير» - كما سمّاه آرئيل شارون يوماً - لتنفيذ عمليات فدائية في وسط إسرائيل، بل إن الخطر الأعظم هو إمكانية سقوط قتلى إسرائيليين في جنين نفسها. كذلك، تمثّل الحادثة إخفاقاً جديداً لوحدة «يمام»، لكنّها ستدفع العدو إلى تشديد قبضته وتكثيف اقتحاماته وعملياته العسكرية، في محاولة لإنهاء ظاهرة الاشتباك المستعر منذ عام.