بيت لحم | تتصاعد الأحداث في الأراضي الفلسطينية المحتلّة على نحو دراماتيكي، يُنذر باتّساع رقعة الانتفاضة، وتسارع وتيرتها، وتكاثر أشكالها. ولعلّ التطوّرات التي شهدتها الضفّة الغربية والقدس، خلال الساعات الأربع والعشرين الماضية، بما فيها وقائع غير مسبوقة منذ سنوات، تؤكّد أن ما تتدحرج إليه الأوضاع أشبه بـ«هَبّة استنزافية تراكمية تدريجية» ستنجم عنها خسائر أضخم بالنسبة إلى العدو. إزاء ذلك، تضيق الخيارات بالنسبة إلى سلطات الاحتلال، التي تُظهر إلى الآن ميلاً إلى إنكار الحقائق التي أفرزتها الأحداث الأخيرة. وعلى رغم أن هذا الإنكار قد يكون مندرجاً في إطار «الكباش» الداخلي الإسرائيلي، إلّا أن الاحتمال المتقدّم لا يمنع التحسّب لسيناريو إقدام العدو على «مغامرة» سواءً داخل فلسطين أو خارجها، بالاتّكاء على «إغراءٍ» منتهي الصلاحية، عنوانه قدرة القوّة والسطوة على فرْض الإرادة
تستمرّ بقعة النار في الأراضي الفلسطينية المحتلّة في التوسّع، فيما تتدحرج سلسلة العمليات الحالية متنقّلةً ما بين أراضي عام 1948 والقدس والضفة الغربية. ولم يكد «الشاباك» الإسرائيلي يغلق ملفّ عملية «إلعاد»، حتى فتح الفلسطينيون ملفّات أخرى، وسارعوا إلى تنفيذ هجمات جديدة. وبعد ساعات من الإعلان الإسرائيلي عن اعتقال منفّذَي العملية، شهدت القدس والضفة سلسلة أحداث متلاحقة ومفاجئة في ليلة واحدة، بدأت باستشهاد الشاب محمود عرام جنوب طولكرم، بعدما أطلق جنود العدو النار عليه بينما كان يحاول عبور ثغرة في الجدار الفاصل. وعرام متحدّر من خان يونس جنوب قطاع غزة، ووصل قبل فترة إلى الضفة بعد حصوله على تصريح مؤقّت لأغراض علاجية، لكنه لم يغادر أراضيها، ولجأ إلى العمل في الداخل المحتلّ بلا تصريح، في ما يُسمّى «تهريباً»، حيث يتمّ الدخول إلى أراضي 48 عبر ثغرات الجدار وليس المعابر التي يحرسها جنود العدو.
وفي القدس، عاد باب العَمود إلى تصدُّر المواجهة، ولكن هذه المرّة بعملية طعن أدّت إلى إصابة أحد أفراد شرطة الاحتلال. وبحسب الرواية الإسرائيلية، فإن شابّاً من الضفة وصل إلى ساحة باب العَمود، وأثناء تجوّله أثار شكوك الشرطة الإسرائيلية كفلسطيني لا يحمل تصريح دخول إلى القدس، وعندما ناداه جنود العدو استلّ سكّيناً بحوزته وطعن أحدهم في الجزء العلوي من جسده. وتوضح مصادر محلّية، لـ«الأخبار»، أن الشاب هو نذير مرزوق من بلدة عبوين في رام الله، وأحد نشطاء «الكتلة الإسلامية»، الذراع الطالبية لحركة «حماس»، مضيفة أن عملية الطعن جرت بعد إدخال الشرطة الشاب إلى غرفة الحراسة الإسرائيلية في باب العَمود، حيث سُمع صراخ جنود العدو ثمّ إطلاق نار في المكان.
وفي وقت لاحق، شهدت بيت لحم حادثة غير مسبوقة في جنوب الضفة منذ سنوات طويلة؛ إذ تَوجّه أربعة شبّان لتنفيذ هجوم على مستوطنة «تكواع» قرب بلدة تقوع الفلسطينية، ونجح أحدهم، وهو معتصم عطاالله، في اقتحام المستوطنة واختراق تحصيناتها والوصول إلى باب أحد المنازل، قبل أن يستشهد برصاص أحد حراس أمن المستوطنة. ويُظهر مقطع فيديو مصوّر بثّته وسائل إعلام إسرائيلية أن عطاالله نجح في الوصول إلى محاذاة السياج الشائك، في حين أخفق العدو في اكتشافه على رغم وجود منظومات مراقبة واستشعار وإنذار في المكان، ثمّ تسلّق الشاب السياج وقفز إلى قلْب المستوطنة، ولم يشعر العدو بوجوده إلّا عند إطلاق النار عليه وإصابته. ووفقاً للرواية الإسرائيلية، فإن ثلاثة شبّان آخرين تمكّنوا من الانسحاب قبل عبورهم السياج، بينما نعت حركة «حماس» شهيدها عطاالله، مؤكدةً أن «دماءه ستبقى وقوداً للانتفاضة، وأن مشروع المقاومة ماضٍ للدفاع عن الشعب والمقدّسات حتى التحرير مهما بلغت التضحيات». وتشير مصادر عائلية إلى أن الشهيد معتصم (18 عاماً) من سكّان بلدة حرملة شرق بيت لحم، وأحد نشطاء «حماس» على رغم صغر سنّه.
خلال أسبوع واحد فقط، دخلت أربعة منازل جديدة قائمة المنازل المُهدَّدة بالهدم في الضفة


وعلى الرغم من عدم وقوع إصابات في صفوف المستوطنين بعد اقتحام «تكواع»، إلّا أن محاولة تنفيذ العملية تُعدّ مؤشّراً خطيراً؛ إذ لأوّل مرّة منذ انتهاء الانتفاضة الثانية، أي منذ 15 عاماً على الأقلّ، يقتحم فلسطيني مستوطنة في بيت لحم لتنفيذ هجوم. ويُعدّ هذا الأسلوب نادراً في هذه المنطقة، حيث كانت أشكال الفعل النضالي تتركّز على المواجهات الجماهيرية والاشتباكات المسلّحة وعمليات الطعن والدهس على المفترقات وقرب المستوطنات، وإطلاق النار من خارجها نحوها وليس اقتحامها. ويمثّل نجاح فلسطيني في اقتحام قلْب «تكواع»، بحدّ ذاته، إخفاقاً أمنياً إسرائيلياً، لأن الشاب كان على بُعد ثوانٍ من اقتحام منزلٍ وطعن المستوطنين فيه، بحسب الرواية الإسرائيلية. كما أن إغلاق العدو المستوطنة والطلب من سكّانها التزام المنازل وإطفاء الأنوار، يزيدان من هواجس المستوطنين وشعورهم بعدم الأمان بسبب الخشية من تكرار عمليات اقتحام مماثلة.
واستمرّت، خلال اليومَين الماضيَين، تداعيات عملية المزيرعة، حتى بعد اعتقال منفّذَيها، صبحي صبيحات وأسعد الرفاعي، الذي كان آخر منشور له، قبل تَوجّهه إلى الهجوم، صورة لمحمد الضيف، القائد العام لـ«كتائب القسام»، مع عبارة كتبها الرفاعي بيده وهي «لن نرتضي عار القعود»، وفق ما أفاد به صديقه. وشهدت بلدة رمانة في جنين، والتي يتحدّر منها المنفّذان، اقتحاماً إسرائيلياً، أخذ العدو أثناءه قياسات منزلَيهما، وتخلّلته مواجهات مع أهالي البلدة. وبحسب وسائل إعلام عبرية، فإن الشابَّين مثّلا، أيضاً، أمس، مراحل تنفيذ العملية على الأرض، بعد إحضارهما من قِبَل الشرطة الإسرائيلية. كذلك، أعلن جيش الاحتلال اعتقال عدد من المتّهمين بمساعدة منفّذي عمليتَي «إلعاد» و«أرائيل»، فيما لا يزال العدو ينصب كمائن متنوّعة على ثغرات الجدار بين الضفة والأراضي المحتلة عام 1948 خشية من وقوع عمليات جديدة ودخول مقاومين من الضفة.
وخلال أسبوع واحد فقط، دخلت أربعة منازل جديدة قائمة المنازل المُهدَّدة بالهدم في الضفة، بعد أخذ العدو قياسات منازل الرفاعي وصبيحات، وأيضاً منفّذَي عملية «أرائيل» يحيى مرعي ويوسف العاصي في بلدة قراوة بني حسان قرب سلفيت. ويرى مراقبون أن ثمّة تسارعاً في عملية أخذ قياسات المنازل وتهديدها بالهدم ثمّ إقرار ذلك رسمياً، وهو ما يعزونه إلى محاولة قادة العدو طمأنة المستوطنين وتهدئة احتجاجاتهم التي تتأجّج بعد كلّ عملية. في المقابل، يقول الصحافي الإسرائيلي، أمير أورن، إن «سياسة هدم منازل منفّذي العمليات فقدت قيمتها وليست رادعة، والدليل على ذلك هو استمرار العمليات الفدائية مع تواصُل عمليات الهدم».
على أيّ حال، ينبئ المشهد العام، في ظلّ استمرار العمليات، بأن السيناريو الأكثر ترجيحاً في فلسطين، هو تَواصل الهبّة ما بين مدّ وجزر، وبشكل تصعيدي تدريجي ملحوظ. وحتى وإن عاد الهدوء النسبي لأيام أو أسابيع، فإن عملية جديدة ستكسره. باختصار، يبدو الأمر أشبه بـ«هبّة استنزافية تراكمية تدريجية» ستنجم عنها خسائر أضخم بالنسبة إلى العدو، مقارنة بالهَبّات والمواجهات الماضية في الضفة والقدس.