تُواصل الصحافة التركية إشاعة مناخ من التفاؤل بشأن الاتّجاهات الجديدة في السياسة الخارجية التركية، وهو ما عكسته خصوصاً صحيفتا «حرييات» و«ميللييات»، المؤيّدتان لحزب «العدالة والتنمية». وعنونت «حرييات» مانشيتها الرئيس، قبل أيام، بعبارة: «خمس خطوات في الدبلوماسية». ونقلت الكاتبة نوراي باباجان، في المقال، عن وزير الخارجية التركي، مولود جاويش أوغلو، تأكيده، في اجتماعات داخلية للحزب، أن العلاقات مع الإمارات قطعت شوطاً كبيراً على طريق التطبيع بين البلدَين. وأضاف أوغلو أن الأمر نفسه ينطبق على العلاقات بين تركيا والسعودية، موضحاً أن تسليم قضية جمال خاشقجي إلى السعوديين، والاتفاق على آلية التعاون القضائي معهم، يَدخلان في إطار عملية التطبيع تلك. ويأتي ذلك فيما أفيد بأن الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، سيزور السعودية، من دون تحديد موعد للزيارة. أمّا بالنسبة إلى إسرائيل، فتَذكر الكاتبة أن جاويش أوغلو تحدّث عن خطوات في غاية الأهمية، مشيرةً إلى أنه سيذهب بنفسه، هذا الشهر، إلى إسرائيل، وبعد عودته ستوضع اللمسات الأخيرة المتعلّقة بزيارة إردوغان إلى هناك. وتضيف أن وزير الدفاع، خلوصي آقار، سيرافق جاويش أوغلو في زيارته الإسرائيلية، لافتة إلى أن السلطة الفلسطينية أُعلمت بالأمر، وأبدت ترحيباً به، كما أرسلت رسالة إلى أنقرة تفيد بأنها «مسرورة لتطبيع العلاقات بين تركيا وإسرائيل»، معتبرة أن «الزيارة ستُسهم في حلّ القضية الفلسطينية، وتصبّ في خانة المصلحة الفلسطينية». وبخصوص الخطوة الدبلوماسية الرابعة، تُبيّن باباجان أنها تصبّ في اتّجاه أرمينيا، التي تسير المباحثات بينها وبين أذربيجان، كما بينها وبين تركيا (ودائماً بالتنسيق مع باكو)، في الاتّجاه الصحيح، في حين ستكون المحطّة الخامسة مع مصر، التي سيزور وزير خارجيّتها، سامح شكري، إسطنبول، تلبيةً لدعوة إفطار من جاويش أوغلو نفسه.من جهتها، تورد عائشة غول قهوجي أوغلو، في صحيفة «ميللييات»، قول إردوغان بخصوص العلاقات مع السعودية: «صحيح أنّنا في خلاف منذ أربع سنوات ونصف سنة (منذ مقتل خاشقجي)، لكن هذا النزاع لا يمكن أن يستمرّ إلى ما لا نهاية»، لافتةً إلى أن الرئيس التركي بادر إلى أولى الخطوات، عبر إعلانه في شباط الماضي أنه سيزور السعودية، لكنه حتى الآن لم يقم بالزيارة. كذلك، سرت إشاعات عن أن الملك السعودي سلمان، ووليّ عهده محمد بن سلمان، وجّها دعوة إلى إردوغان لتأدية صلاة العيد في مكّة. وتنقل الكاتبة عن مصادر في «العدالة والتنمية» قولها إن إردوغان بدأ مرحلة جديدة، ليس مع السعودية فحسب، بل مع إسرائيل وأرمينيا ومصر وكندا، وإن «العالم مِن حَولنا يتغيّر. ومع كلّ تطوّر جديد يتغيّر الاستقرار. ويجب إعادة النظر في كلّ المسائل». وتضيف المصادر نفسها: «ثمّة صفحة جديدة مع روسيا، وهناك تغييرات في سياسة أميركا تجاه دول الخليج. وفي هذه المرحلة الاستثنائية، ستكون لهذه التطوّرات تأثيرات على الداخل التركي».
وفي «جمهورييات» المعارِضة، يكتب مصطفى بالباي مقالة بعنوان «الآن دور سوريا»، يقول فيها إن «سنوات التذبذب قد طوتها أنقرة، والمناخ الآن يفيد بأن التطبيع مع دمشق قادم». ويرى أن «الدومينو الذي بدأ بالتقارب مع السعودية وإسرائيل والإمارات ومصر وليبيا، سيواصل تأثيره». ويَعتبر أن «الانفتاح التركي على هذه الدول، يُظهر أن حزب العدالة والتنمية قد بدأ بمعالجة أخطائه»، متسائلاً: «هل من مزيد؟»، عانياً بذلك سوريا. وفيما يشير إلى أن «التحضيرات في السراي الرئاسي، في ما يتّصل بالعلاقة مع دمشق، تتركّز على الجانب الأمني»، فهو يؤكّد أنه «جرى التوصّل إلى قناعة بأن البدء من هذه الناحية، لن يصحّح أخطاء عشر سنوات في سوريا». وبناءً عليه، يقول بالباي إنه «من غير الواضح إلى أين ستصل إدارة الملف السوري»، مستدركاً بأنه «يمكن القول إن مرحلة جديدة ستبدأ». وفي هذا السياق، يعدّد جملة نقاط يَعتبر أن على تركيا التنبّه إليها في إطار تصحيح علاقاتها مع الخارج، وهي:
1- أن سوريا هي القدم الطبيعية للعلاقات (التركية) مع مصر.
2- أن حزب «العدالة والتنمية» قد طابق مصالح الدولة مع مصالحه، وهذا خطأ، وعليه أن يتخلّى عن المصالح الحزبية في سبيل مصلحة الدولة.
3- يجب أن لا يبيع الحزب العلاقات مع جيرانه، من أجل إرضاء القوى العالمية.
4- يجب أن يقطع العلاقات مع العناصر المُعادية للدولة التي يريد التصالح معها.
بدوره، يتطرّق باريش دوستر، في الصحيفة ذاتها، إلى السياسات الجديدة لـ«العدالة والتنمية»، معتبراً إيّاها عودة إلى التصالح مع النزعة الأميركية. ويَلفت دوستر إلى أن «المجتمع يشهد استقطاباً حادّاً بين أنصار الأطلسية وأنصار الأوراسية، وبين أنصار الولايات المتحدة وأنصار روسيا»، ويرى أن «طريق الخروج من الازدواجية التي تعيشها البلاد، هي عبر مقاربة القضايا من زاوية مصالح تركيا الخالصة، والعمل على استقرار الجبهة الداخلية، والسير على خطى سياسات أتاتورك الخارجية، وحماية اتفاقية مونترو، وعدم تحويل البحر الأسود إلى بحيرة أطلسية، واتّباع سياسات خارجية محورها المحيط الإقليمي والدفاع عن نظام عالمي متعدّد الأقطاب».
لا يمكن تصحيح العلاقة التركية مع سوريا على قاعدة «عفا الله عمّا مضى»


في خضمّ ذلك، يطرح استثناء سوريا من حركة المصالحات، علامات استفهام بشأن الأهداف البعيدة لتلك الحركة، وما إذا كانت تأتي في سياقٍ أميركي، خصوصاً أن جميع الدول التي تطبّع مع تركيا الآن، تقع في المعسكر الأميركي. وبمعزل عن حقيقة الموقف، فإن العلاقة التركية مع سوريا لا يمكن تصحيحها على قاعدة «عفا الله عمّا مضى»، أو ببعض المقايضات كما يجري مع دول أخرى. فتركيا تحتلّ أجزاء واسعة من الأراضي السورية، وتقوم بعمليات تغيير في بناها الاجتماعية والاقتصادية. كما أن لأنقرة عشرات الآلاف من المسلّحين المعارضين في إدلب، إضافة إلى أربعة ملايين لاجئ سوري على الأراضي التركية. هذا فضلاً عن أن هناك لاعبين إقليميين ودوليين على الأرض، مثل الولايات المتحدة وروسيا، وقوات معادية مثل القوات الكردية. وبناءً عليه، تحتلّ المسألة السورية موقعاً مختلفاً عن بقية الملفّات، تتّصل بالبعد النفسي لمقاربة إردوغان لها، وهو المصرّ حتى الآن على عدم الاعتراف، لا بالنظام ولا بالدولة السورية. لذا، تتطلّب المصالحة مع سوريا إعادة نظر جذرية من قِبَل أنقرة، وقد تكون هذه أكبر من قدرة إردوغان النفسية والمادية، أو حتى رغبته في معالجة أسباب الصراع. وربّما يتطلّب كلّ ما تَقدّم انتظار الانتخابات الرئاسية التركية، في حزيران من العام المقبل، ومجيء سلطة جديدة متحرّرة من أعباء عشر سنوات عجاف، تقوم بالمصالحة... والمحاسبة.