باريس | على بُعد حوالى 10 أيّام من الانتخابات الرئاسية الفرنسية، يواصل المرشّحون الرسميون حملاتهم الدعائية، بعدما قُبلت أوراق ترشّحهم، في مقابل آخرين استُبعدوا من السباق جرّاء فشلهم في جمع التوقيعات اللازمة للتصديق على ترشيحهم. ويتنافس في الجولة الأولى 12 مرشّحاً متوزّعين على القوس السياسي ما بين أقصى اليمين وأقصى اليسار، وهم: إريك زمور، مارين لوبان، نيكولا دوبون إينيان، فاليري بيكريس، إيمانويل ماكرون، يانيك جادو، آن هيدالغو، جان لوك ميلنشون، فابيان روسيل، ناتالي أرتو، فيليب بوتو، وأخيراً جان لاسال الذي يصعب إدراجه على ذلك القوس. واللافت أنّ مرشّحي اليسار المتطرّف (من ميلينشون إلى بوتو) واليمين المتطرّف (من دوبون إينيان إلى زمور) يتشاركون الموقف نفسه حيال قضايا متعدّدة في السياسة الخارجية، فيما يتقاطع مرشّحو «الحزب الاشتراكي» (وهو في الواقع ديموقراطي اجتماعي) و«الحزب الجمهوري» اليميني عند الخصومة مع روسيا والصين، وتعزيز قوّة الاتحاد الأوروبي، والحفاظ على التحالف مع الولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي».
بين الشرق والغرب
وفي تفاصيل تلك المواقف، يَظهر مرشّحو اليسار واليمين المتطرّفَين الأكثر انتقاداً للولايات المتحدة وحلف «الناتو». إذ يريد زمور ولوبان ودوبون إينيان وميلينشون وروسيل وأرتو وبوتو، خروج فرنسا من القيادة المتكاملة لـ«الأطلسي»، كما يعترضون على انضمام أوكرانيا إلى الحلف - وهو موقف يشاركهم فيه بقيّة المرشّحين الذي يرفضون أيضاً ضمّ هذا البلد إلى الاتحاد الأوروبي -. كذلك، يناوئ هؤلاء العقوبات المفروضة على روسيا، على اعتبار أنّ الفرنسيين هم مَن سيدفعون ثمنها مع ارتفاع أسعار الغاز والنفط والبنزين. ووفقاً لزمور، يعمل «الناتو» فقط، منذ سقوط الاتحاد السوفياتي، على تشريع الصناعة العسكرية الأميركية، وإخضاع الدول الأوروبية لها. وكما دوبون إينيان وروسيل، يعتقد المرشّح الأكثر تطرّفاً أنه «يجب أن تكون (فرنسا) صديقة لروسيا، وأن تتوقّف عن كونها أداة للولايات المتحدة»، التي «تقضي وقتها في تأليب الدول الأوروبية على روسيا والصين». وفي الاتّجاه نفسه، يَعتبر لوبان وبوتو أنّ توسيع «الناتو» يستهدف تطويق روسيا بشكل خطير، وأن الغرب «يدفع روسيا إلى أحضان الصين». وتقول لوبان إنه «إذا اضطررنا إلى قطع علاقاتنا مع روسيا بسبب قضية تسميم نافالني، فعلينا قطع علاقاتنا مع المملكة العربية السعودية لأنهم يقطّعون الصحافيين في السفارات»، موضحة أنها تسعى إلى «علاقات على بُعد متساوٍ مع الحلفاء».
لا يتردّد بعض المرشحين في الإعراب عن قلقهم إزاء النفوذ المتزايد لقوى أخرى في أفريقيا والشرق الأوسط


ومن جانبه، يدعو ميلنشون إلى أن تكون بلاده «قوّة غير انحيازية»، معتبراً أن القيادة الأميركية تبحث عن حرب باردة مع الصين لأنها تَضعف وتواجه تناقضات داخلية تهدّدها. ولكن بعد اشتعال الحرب في أوكرانيا، عاد ميلنشون ليُعدّل قليلاً في موقفه، إذ قال: «لست غير انحيازي بين السيد زيلينسكي والسيد بوتين. من الواضح تماماً أنني في جانب السيد زيلينسكي. ولكن، على أيّ حال، يجب أن تكون فرنسا قادرة على أن تتمتّع باستقلال ذاتي في الحوار ويجب أن تكون قادرة على الدفاع عن نفسها». وترى المرشّحة «التروتسكية»، أرتو، بدورها، أنّ الحرب في أوكرانيا «نتاج للنظام الإمبريالي». كما تَعتبر بوتين «ديكتاتوراً»، وتتّهمه و«شمال الأطلسي» و«القوى الإمبريالية الغربية» بأنهم يريدون جعل أوكرانيا «دمية لهم».
أمّا المرشّحون «المعتدلون»، فيَظهر موقفهم أكثر تطرّفاً حيال روسيا، إذ يريد بعضهم مثل بيكريس خفض المشتريات من النفط والغاز الروسيَين، فيما يَرغب آخرون كجادو وهيدالغو في تشديد الحصار على هذا البلد، ووقف مشروع «نورد ستريم 2» كلّياً، واستبدال استهلاك الغاز بالطاقة المتجدّدة. أمّا ماكرون، فيتعهّد بمواصلة سياسته المتمثّلة في فرض العقوبات على روسيا، وإيصال الأسلحة إلى أوكرانيا.

المسائل الدفاعية والعسكرية
في مجال الأمن والدفاع، يبدو جميع المرشّحين تقريباً مُدركين حقيقة اعتماد فرنسا على الولايات المتحدة. ولذا، يسعى زمور ولوبان وماكرون إلى تعزيز الدفاع القومي من خلال رفع ميزانيّته من 40.9 مليار إلى 50 مليار يورو سنوياً. كما يريد ماكرون مضاعفة عدد الاحتياطيين وتمديد الخدمة العامّة الوطنية التي تستهدف الشباب الفرنسيين الذين تُراوح أعمارهم بين 15 و17 عاماً. ومن جهته، يتطلّع زمور، المؤمن بـ«حرب الحضارات»، إلى الاستثمار في الغواصات النووية، وزيادة عديد القوات الفرنسية المتمركزة في الخارج، فضلاً عن عدد القواعد الجوية. أمّا بالنسبة للمرشحين اليساريين مثل ميلنشون أو روسل أو بوتو، فهم لا يرون جدوى من زيادة ميزانية الدفاع، فيما يطالب بعضهم بتمكين البلاد من إنتاج الأسلحة من دون الاعتماد على المواد الأميركية والإسرائيلية، ولا سيّما في مجال الأمن الحاسوبي. وبالنسبة للشركات الفرنسية التي تُصنّع الأسلحة مثل «داسو» و«ثالس» و«إيرباص»، تريد بيكريس، مثلاً، حمايتها من المنافسات «مثلما الألمان يدافعون عن مصالحهم الصناعية». وبينما ينتقد ميلنشون وجادو وبوتو مبيعات الأسلحة إلى «الديكتاتوريات» أو البلدان المتنازعة، كالسعودية، يرغب روسيل في فكّ الارتباط مع القوى النووية الأخرى وإعلان معاهدة أمنية جماعية «في أوروبا وفي العالم».
وفي ما يتعلّق بالعمليات العسكرية الخارجية، يرفض ميلنشون وبوتو وروسيل، على ضفّة اليسار، أيّ تدخّل عسكري، ويدعون إلى انسحاب القوات الفرنسية من أماكن انتشارها، كما إلى تعزيز دور الأمم المتحدة لضمان الأمن الجماعي، فيما يودّ جان لاسال أن يسمح للبرلمان أو للشعب بالتقرير في شأن التدخّلات العسكرية عن طريق التصويت. في المقابل، ينادي المرشحون على مقلبَي اليمين والوسط، مثل جادو وماكرون وبيكريس وهيدالغو، بتعزيز الدفاع الأوروبي، على اعتبار أنه «لا يمكننا ترك قيادة حلف شمال الأطلسي طالما لا توجد دفاعات أوروبية» كما يقول جادو، في حين يعتقد دوبون إينيان وبيكريس وهيدالغو أن البعثة العسكرية في أفريقيا ينبغي أن تستمرّ.

القوّة الناعمة وحرب النفوذ
لا يتردّد بعض المرشحين في الإعراب عن قلقهم إزاء النفوذ المتزايد لقوى أخرى في أفريقيا والشرق الأوسط، وعلى رأسها الصين التي بات يُنظَر إليها كتهديد. وفي هذا الإطار، يدعو دوبون إينيان إلى الدفاع عن مصالح فرنسا التجارية من خلال فرض المعاملة بالمثل مع الصين، معتبراً أنه «إذا كنّا لا نستطيع أن نبيع لهم من دون إنشاء مصانع عندهم، فعليهم إنشاء مصانع في أوروبا للبيع هنا». كذلك، يريد كلّ من بيكريس وجادو حماية الصناعة الأوروبية من خلال إغلاق الأسواق الأوروبية أمام الصين، وتطبيق تدابير إعادة الاستثمار في الأخيرة. أمّا المرشح الشيوعي، روسيل، الذي شارك في الاحتفال بالذكرى السنوية المائة لتأسيس «الحزب الشيوعي الصيني» في السفارة الصينية في فرنسا، فيريد إقامة علاقة متوازنة مُربِحة للجميع مع الصين، تهدف إلى حماية الصناعات والوظائف الأوروبية.

باتت فرنسا تعاني كثيراً لفرض احترامها كـ«قوّة عظمى» في العالم


وفي ما يتّصل بالعلاقة مع أفريقيا، تَظهر مخاوف المرشّحين بشأن تزايد المشاعر المعادية لفرنسا هناك، وهو ما يدعون إلى معالجته بإعادة بناء «وزارة التعاون» في هذه القارّة، والاستثمار في المشاريع الإنمائية فيها، كما تفعل الصين، بحسب دوبون إينيان الذي يتّهم وزير الخارجية، جان إيف لو دريان، بأنه كان له خطاب تدخليّ في مالي، والرئيس السابق، نيكولا ساركوزي، بأنه ساهم في «التدمير المنظّم» لليبيا. كذلك، يدعو مرشّح اليمين المتطرّف إلى أن تكون بلاده حازمة مع تركيا، التي تبيع الأسلحة لليبيا و«تزعزع استقرار شمال الشرق الأوسط وأفريقيا». وفي الاتّجاه نفسه، تريد بيكريس «استعادة النفوذ الجيو ـ استراتيجي»، من خلال تقديم المساعدة إلى البلدان الأفريقية والشرق الأوسط، بواسطة «وكالة التنمية الفرنسية»، فيما يطالب جان لاسال بـ«دعم تطوير الهياكل الأساسية الأفريقية، بما في ذلك الاتصالات السلكية واللاسلكية». أمّا المرشّح المناهض للرأسمالية، بوتو، فيريد أن يضع حدّاً لـ«فرانس أفريك»، معتبراً إيّاه «نظاماً استعمارياً» جرى من خلال دعم الديكتاتوريات، وإدامة القمع والبؤس والاستغلال باسم «مصالح فرنسا».

الشرق الأوسط
تتفاوت مواقف المرشّحين ورؤاهم في شأن القضايا المتّصلة بالشرق الأوسط، وإن كانت غير واضحة أو محسومة تماماً لدى العديدين منهم. في ما يتّصل بسوريا مثلاً، يجتمع مرشّحو اليمين المتطرّف، مثل زمور ولوبين ودوبون إينيان، على أن «قطع العلاقات مع سوريا كان خطأً»، وعلى أنهم «سوف يعيدون فتح سفارة بلادهم في دمشق»، معتبرين أنه «لو خسر (الرئيس السوري بشار) الأسد لكان لدينا داعش، ولكان أمن فرنسا على المحكّ»، وأنه «لا يمكننا الالتفاف على بلد مثل سوريا». أمّا بخصوص فلسطين، فاللافت أن زمور - وهو يهودي وليس صهيونياً؛ ربّما بسبب شوفينيته الشديدة - يرى أن «حلّ الدولتين» عفا عليه الزمن، من دون أن يذهب إلى أبعد من ذلك، في حين يؤمن ميلنشون بهذا الحلّ، ويعتقد أن فرنسا قادرة على «قلْب الطاولة» لإجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي. من جهتها، ترى المرشّحة اليمينية، بيكريس، أن معاداة الصهيونية هي شكل من أشكال معاداة السامية، وتعتبر أنه «لا يجب أن تتخلّى فرنسا عن دورها في تسوية الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني، لأنه إذا لم تتحدّث فرنسا عنه فلن يتحدّث عنه أحد». كما وتؤيّد بيع الأسلحة للسعودية بصفته «سياسة واقعية». وأخيراً، لا تجد هيدالغو إمكانية للتحدّث مع حركة «طالبان»؛ لـ«غياب المعتدلين في صفوفها»، فيما ترغب هي وميلنشون في مواصلة دعم حلفائهما الأكراد.

خاتمة
أثبتت الحرب في أوكرانيا ضعف أوروبا في مجال الدفاع، واعتمادها على الولايات المتحدة و«حلف شمال الأطلسي». وجاء ذلك في وقت كان يتزايد فيه القلق الفرنسي على تراجع قوّة البلاد الناعمة ونفوذها في مستعمراتها السابقة، حيث تكافح من أجل البقاء، في ظلّ صعود قِوى منافِسة هناك، على رأسها روسيا والصين وتركيا. وعلى النقيض ممّا يُعتقَد، فإن مرشّحي الرئاسيات يدركون تمام الإدراك المعضلة التي تعصف ببلادهم، بين إرادتها الانفتاح على الجميع من جهة، وخضوعها للولايات المتحدة من جهة أخرى، في عالم لا تفتأ تتغيّر معالمه. باختصار، تكشف الحملات الانتخابية هواجس كانت لا تزال مَخفيّة، عنوانها أن فرنسا باتت تعاني كثيراً لفرض احترامها كـ«قوّة عظمى» في العالم.