لم تنجح عودة طوابير البنزين، ولا تحليق أسعار الخضار، ولا ارتفاع عدد ضحايا انفجار المرفأ، ولا غيرها من المشاكل المعيشية التي تؤرّق اللبنانيين، في حجب الأنظار عن جريمة أنصار أو في إنزالها إلى المرتبة الثانية من اهتمامات الرأي العام. لطالما جذبت أخبار الجرائم المواطنين، لما تحمله من غموض بالدرجة الأولى، ولأنها تعدّ من الأحداث التي تتناقض مع منظومة القيم التي تحكم المجتمع بدرجة ثانية. هذه هي حال الجماهير مع أي جريمة، وفي كلّ المجتمعات. لا خصوصية في تعامل الناس مع أخبار القتل والدم. فكيف إذا وقعت الجريمة في قرية وادعة وكان ضحاياها من النساء؟ عندها تصبح جريمة "غير عادية" وعندها يخرج أهل هذه القرية ليخبروا الناس أن "هذه ليست قيمنا وما حصل لا يشبهنا".
تدرك وسائل الإعلام هذه الحقائق، فلا توفّر فرصة متابعة أخبار الجرائم وضخّ المعلومات حولها كلّما سنحت لها الفرصة. هذا ما حصل في الأيام القليلة الماضية، إذ طغت تفاصيل الجريمة، الصحيحة منها والكاذبة، على كلّ ما عداها وتحوّلت إلى أخبار عاجلة تصلنا عبر إشعارات هاتفية. حجزت هواء النقل المباشر التلفزيوني مع مواكبة مماثلة عبر منصّات العالم الرقمي، واحتلّت مقدّمات نشرات الأخبار وذكرتنا مجدّداً بمهارة كتّاب العناوين المثيرة في الصحف والمواقع الإخبارية.
وكالعادة، ارتُكب خلال هذه المتابعة الإعلامية الكثير من التجاوزات المهنية، يشعر من سيكتب عنها باللاجدوى بما أنّه يكرّرها نفسها في كلّ مرة تقع فيها جريمة، لكن تبقى الإشارة إليها ضرورية خصوصاً عندما يشعر المتابع أنّ سير التغطية بهذا الشكل قد يؤدي إلى جريمة ثانية. إن الإصرار على النقل التلفزيوني المباشر، وفتح الهواء لانتهاك الخصوصيات، ولاستصراح الأهالي ليعبّروا عن غضبهم ما يضاعف من حدة هذه المشاعر، يدفع إلى التعبير عن آراء متطرّفة تصل إلى حدّ التحريض على القتل كما حصل في الأيام الماضية. لقد بدا طبيعياً، بعد هذا الحجم من التغطية الإعلامية للجريمة عبر مختلف الوسائط المتاحة، أن يستعيد كثيرون على مواقع التواصل الاجتماعي جريمة كترمايا التي وقعت قبل نحو 12 عاماً (قتل طفلتين وجدّيهما)، وأن يطالبوا بالاقتصاص من مرتكب جريمة أنصار بالطريقة نفسها التي اقتُصّ فيها من المشتبه فيه بارتكاب جريمة كترمايا. نذكر جميعنا أن الأخير أُعدم من قبل أهل البلدة بطريقة وحشية، حتى قبل أن تثبت مسؤوليته عن الجريمة، ما أخّر اكتشاف دوافعها نحو عامين.
إن البحث عن الجمهور من خلال تغطية الجريمة لا يحتاج إلى أي جهد مهني استثنائي لأنه هدف متحقّق نتيجة إقبال الناس طوعاً على هذا النوع من الأخبار. فماذا لو بذلت وسائل الإعلام جهدها بشكل إيجابي؟
فلنتذكر أن الهدف الأساسي من أي تغطية إعلامية لجريمة هو إعلام المواطنين بها أولاً، ومدّهم بكلّ ما يتوافر من معلومات موثوقة حولها كي لا تنتشر الإشاعات، الإضاءة على الثغرات في حال وُجدت من دون مبالغة وبشكل لا يؤثر في سير التحقيق، والحرص على محاكمة عادلة للمتهم بعيداً من التحريض، خصوصاً حين تكون دوافع الجريمة غامضة وقد تكشف التحقيقات أموراً لم تكن في الحسبان. في هذا الإطار كان لافتاً حرص بلدية أنصار، من خلال اللافتات التي ارتفعت في أرجاء البلدة أمس، على المطالبة بتحقيق العدالة.