بغداد | لا تزال الضربة الصاروخية الإيرانية على منشأة إسرائيلية في مدينة أربيل، تثير جدلاً في الأوساط السياسية والأمنية، وسط إصرار كردي على نفي أيّ نشاط استخباراتي إسرائيلي في إقليم كردستان، في مقابل تمسّك إيران برواية وجود نشاط أمني ضدّها، انطلاقاً من الإقليم. وبحسب مصادر أمنية عراقية، فإن هذا النشاط لم يَعُد قابلاً للإنكار، فيما محاولة القادة الكرد مواراته خلف ستار تجاري أو عسكري دولي لا تبدو قابلة للصرف، خصوصاً أن الإسرائيليين يدأبون على التلطّي خلف هذه الواجهات، وهو ما ينطبق أيضاً على المقرّ المستهدَف أخيراً، والذي تعود ملكيّته إلى مجموعة متورّطة في بيع النفط العراقي لإسرائيل
أعاد القصف الإيراني الأخير على مدينة أربيل، عاصمة إقليم كردستان، الحديث عن التواجد والنشاط الإسرائيليَّيْن في شمال العراق، إلى واجهة الجدل السياسي والأمني. وكان الحرس الثوري الإيراني أعلن، في 13 آذار، أنه استهدف «مركزاً استراتيجياً إسرائيلياً» في كردستان، بعد ساعات من إعلان سلطات الإقليم سقوط صواريخ باليستية أُطلقت «من خارج الحدود» في محيط أربيل والقنصلية الأميركية فيها. وأفاد الحرس، في بيان، بأن «المركز الاستراتيجي للتآمر (...) تمّ استهدافه بالصواريخ القوية والدقيقة»، محذّراً من أن «أيّ تكرار لاعتداءات إسرائيل سيقابَل بردٍّ قاسٍ وحاسم ومدمّر». وجاء الهجوم الأخير بعد نحو أسبوع من إعلان الحرس مقتل اثنين من ضبّاطه، في قصف إسرائيلي استهدف مواقع له قرب العاصمة السورية دمشق. لكنّ سياسياً عراقياً بارزاً نقل، لـ«الأخبار»، عن مسؤول إيراني رفيع تأكيده أن ضربة أربيل جاءت كردّ على عملية إسرائيلية استهدفت في 12 شباط الماضي قاعدتَين للطائرات المسيّرة في كلّ من محافظتَي كرمانشاه وأذربيجان الإيرانيتَين، وأن الصواريخ الإيرانية انطلقت بدورها من هاتَين المحافظتَين. وأضاف المسؤول الإيراني أن الطرف الإسرائيلي نقل إلى الجانب الإيراني رسالة مفادها أن «استهداف القاعدتَين لا يُعدّ هجوماً، بل هو ردّ على هجمات إيرانية سابقة»، في إشارة إلى قواعد الاشتباك غير المكتوبة التي يلتزم بها الطرفان في مواجهاتهما في المنطقة. وبحسب المصدر نفسه، فإن قرار الردّ على القصف الإسرائيلي اتُّخذ على مستوى عالٍ، بعد اجتماع لمجلس الأمن القومي.
بدوره، يوضح قائد بارز في فصائل المقاومة العراقية، في حديث إلى «الأخبار»، أن «المقرّ الإسرائيلي كان يُستخدم للتدريب والاجتماع بجماعات إيرانية معارِضة، وأن التخطيط للهجوم في الداخل الإيراني جرى داخل هذا المبنى». ويلفت القيادي إلى أن «المبنى يمتدّ على مساحة 20 دونماً، ويقع إلى جوار القنصلية الأميركية الأكبر على مستوى العالم، لمنحه نوعاً من الحماية والحصانة». وتعود ملكيّة المقرّ إلى أحد رجال الأعمال الكرد، ويُدعى شيخ باز رؤوف كريم برزنجي، الذي يملك «مجموعة كار» المتورّطة في صفقات بيع النفط العراقي والسوري إلى شركات إسرائيلية. ويرجّح القيادي في المقاومة وقوع خسائر بشرية «لأن الهجوم كان مباغتاً»، ناقلاً عن مصادر على الأرض تأكيدها «وجود جرحى كانوا يتحدّثون بلغة أجنبية». لكنّ المصدر السياسي يستبعد وقوع قتلى أو جرحى، عازياً ذلك إلى وجود رسالة إيرانية مُرّرت قبل 36 ساعة من الضربة إلى الجانب العراقي، عن هجوم وشيك على أهداف إسرائيلية داخل العراق، من دون تحديد الموقع المستهدَف. وتعزّز مُلكيّة مالك المبنى رواية طهران عن كونه موقعاً إسرائيلياً، نظراً إلى علاقة شيخ باز مع جهات إسرائيلية عبر مجموعة «KAR group» التي دانتها المحكمة الاتحادية العراقية أخيراً بتهريب النفط إلى إسرائيل. ويَنقل السياسي العراقي عن المسؤول الإيراني ذاته قوله إن الموقع كان منطلقاً لتخطيط وتنفيذ الهجمات التي استهدفت قواعد المسيّرات في غرب إيران.
لا يتحرّج القادة الكرد من الحديث عن علاقتهم التاريخية مع إسرائيل في عهد زعيمهم الراحل


بدورها، تقول أوساط إعلامية كردية إن العلاقات الكردية - الإسرائيلية قديمة، وتعود إلى زمن الزعيم الكردي الراحل، الملا مصطفى بارزاني، والد الأسرة الحاكمة للإقليم حالياً. وتؤكّد الأوساط الكردية أن الحضور الاستخباراتي الأميركي والإسرائيلي ملموس داخل أربيل والمناطق التي يسيطر عليها «الحزب الديموقراطي الكردستاني». وتلفت إلى أن جهاز «الباراستان» الذي يمثّل جهاز المخابرات التابع لحزب بارزاني، تأسّس على يد «الموساد» في عقد الستينيات، وأنه لا يزال يتلقّى دعماً مالياً وتدريباً على أيدي خبراء أميركيين وإسرائيليين. وبحسب المصادر التاريخية، فإن «الباراستان» أنشئ عام 1968 بعد الزيارة الشهيرة للملا مصطفى إلى إسرائيل ولقائه قادة الكيان، والتي تلتها زيارة أخرى عام 1973. وتولّى ابنا بارزاني، إدريس ثمّ مسعود، قيادة هذا الجهاز الأمني الذي أشرف على تأسيسه ضباط من «السافاك» الإيراني و«الموساد» الإسرائيلي. وكان مسرور، نجل مسعود بارزاني، رئيس حكومة الإقليم الحالي، آخر من تولّى قيادة «الباراستان» قبل أن يتركه لأخذ موقع تنفيذي في الحكومة. ولا تستبعد الأوساط الكردية أن تكون مزرعة رئيس مجموعة «كار» الاستثمارية مقرّاً لأنشطة غير تجارية، نظراً إلى علاقات صاحبها مع إسرائيل التي تشتري نفط الإقليم عبر ميناء جيهان التركي، مشيرة إلى محاذير أمنية تمنع الصحافة المحلّية من الإشارة إلى ذلك.
ولا يتحرّج القادة الكرد من الحديث عن علاقتهم التاريخية مع إسرائيل في عهد زعيمهم الراحل، لكنهم يتكتّمون على استمرار العلاقة حالياً، كما ينفون وجود أيّ دعم أو تواجد إسرائيلي داخل مناطق الإقليم. وفي عام 2016، كشفت صحيفة «معاريف» الإسرائيلية تفاصيل جديدة عن علاقات أربيل مع تل أبيب. وأشارت الصحيفة إلى دور الجنرال تسوري ساغيه في تدريب القوات الكردية في مواجهة الجيش العراقي عام 1974. وذكرت أن الزعيم الكردي الحالي، مسعود بارزاني، على تواصل مع ساغيه حتى الآن، نظراً إلى العلاقة التاريخية بينهما. ويلعب يهود كردستان دوراً محورياً في توطيد العلاقة بين المنطقة الكردية والكيان الإسرائيلي، وهذا ما انعكس على حجم الدعم الذي أبداه الأخير وقياداته لاستفتاء الاستقلال الذي أقامه الإقليم في 25 أيلول 2017. وبحسب الإحصائيات غير الرسمية، هناك ما لا يقلّ عن 400 عائلة يهودية في كردستان أعلنت ديانتها بشكل واضح بعد عام 2003. وتنقسم هذه العوائل بين تلك المنحدرة من أصول يهودية عادت بعد سقوط نظام صدام، وبين أغلبية تعود في أصولها اليهودية إلى جهة الأمّ، كما يقول خبراء. وينفرد الإقليم بالاعتراف باليهودية كديانة رسمية داخله، وقد تمّ تشكيل ممثّلية لذلك ضمن وزارة الأوقاف، تشرف على معابد أبناء الجالية الذين رجعوا الى كردستان بعد عام 2003، بينما لم يُشر الدستور العراقي إلى اليهودية كإحدى الديانات المعترَف بها داخل العراق، والتي انحصرت بالإسلام، المسيحية، الأيزدية، الصابئة المندائية.
وبعد فشل مشروع الاستفتاء، توطّدت العلاقات الكردية - الإسرائيلية، واتّخذت طابعاً أمنياً من خلال تدريب الأجهزة الاستخبارية في الإقليم، وتأسيس مراكز للتجسّس على إيران وحلفائها في العراق. كما اتّخذت العلاقات طابعاً اقتصادياً من طريق شراء 70% من النفط الكردي المهرَّب بعد الخلاف الذي نشب بين أربيل والحكومة المركزية في بغداد، وهو ما يضمن للحكومة الكردية ما لا يقلّ عن 10 مليارات دولار سنوياً. ويؤكد مسؤول أمني عراقي أن النشاط الإسرائيلي في كردستان لم يَعُد قابلاً للإنكار، لكنّ الجديد تَحوّله إلى نشاط أمني عسكري ضدّ إيران بشكل خاصّ. ويقول المسؤول الأمني إن الحراك المخابراتي الإسرائيلي عادة ما يكون خلف واجهة شركات ومشاريع استثمارية، كما أنه يتستّر تحت عنوان قوات «التحالف الدولي» التي تستقرّ في عدد من القواعد العسكرية في محيط مدينة أربيل.