لم يتوقّف معدّل التضخّم، طيلة سنوات الحرب الماضية، عن الارتفاع، إلّا أنه في السنتَين الأخيرتَين سجّل مستويات قياسية، إلى درجة أن الأعوام التسعة الأولى من عمر الحرب باتت في كفّة، والسنتين المذكورتين في كفّة أخرى، تكاد تكون هي الراجحة أيضاً. فمثلاً، تُقدّر البيانات الرسمية معدّل التضخّم السنوي المسجّل خلال عام 2020 بحوالي 163%، وهو ما أدّى إلى معاودة الفقر انتشاره بين السوريين بعد فترة تراجع بسيط شهدها في عام 2019، كما أن نسبة الأسر غير الآمنة غذائياً ارتفعت هي الأخرى لتشكّل أكثر من نصف إجمالي الأسر. وعلى رغم أن بعض الفئات الاجتماعية استطاعت التأقلم سريعاً مع زيادات التضخّم الحاصلة، وذلك من خلال الارتفاع المستمرّ للأجور والتعويضات التي تتقاضاها، إلّا أن موجات التضخّم كانت دوماً أكبر من قدرتها على المواجهة.لكن، هل هذا يعني أن الجميع في سوريا كان خاسراً بفعل معدّل التضخّم المتزايد؟ أم أن هناك فئات ساعدها التضخّم على ترسيخ نفوذها الاقتصادي، والمحافظة على القوة الشرائية لثرواتها ومواردها؟ للتضخّم عموماً، وبغضّ النظر عن أسبابه، تأثيراته السلبية المباشرة على نواحٍ اقتصادية عدّة، بدءاً من توزيع الدخل والثروة بين الأفراد وصولاً إلى الاستثمار، إلّا أن هذه التأثيرات تصبح أكثر وضوحاً وخطورة في الاقتصادات الضعيفة، التي تعاني من خلل عميق في توزيع الدخل والثروة، وفي النمو والإنتاجية. فكيف الحال مع اقتصاد تعرّضت منشآته وموارده أيضاً للتخريب والتدمير والهدر على مدار عقد ونيّف، وعمّت الأنشطة المرتبطة بالحرب أو غير المشروعة مناطقه، كما هو واقع الاقتصاد السوري؟

متضرّرون كثر
يأتي العاملون بأجر وأصحاب الدخول المحدودة والمهمّشون والمحرومون، في صدارة الفئات الاجتماعية المتضرّرة من ارتفاع معدّلات التضخّم. وتبعاً للبيانات الحكومية الرسمية، فإن هؤلاء يشكلون نسبة كبيرة؛ إذ يمثّل العاملون بأجر حوالي 64.9% من إجمالي عدد المشتغلين في البلاد عام 2019، منهم 64.8% يعملون في القطاع الحكومي بأجور ثابتة وضعيفة. وهذا ينطبق إلى حدّ كبير أيضاً على العاملين بأجر في القطاع الخاص، والذين تبلغ نسبتهم حوالي 34.6% من إجمالي عدد العاملين بأجر، وإن كانت الأجور التي يتقاضونها أعلى نسبياً ممّا هي في العام، إلّا أنها تبقى مع تسارع معدّلات التضخم غير كافية لتلبية احتياجات الإنفاق الشهري للأسرة. والحال نفسه ينسحب على شريحة معيّنة من المشتغلين لحسابهم، بالغة نسبتهم حوالي 30% من إجمالي عدد المشتغلين على مستوى البلاد، كما على أصحاب الودائع الموضوعة في المصارف المحلية أو المدّخرات الصغيرة بالعملة المحلية الموجودة في المنازل.
وبحسب الدكتور حسن حزوري، الأستاذ في كلية الاقتصاد في جامعة حلب، فإن للتضخّم «آثاراً سلبية على المستويَين الجزئي والكلّي. فعلى المستوى الجزئي، یؤثّر بشكل مباشر على القوّة الشرائية للمواطنين، دخلهم الحقيقي، ویُضعف من قدرتهم المادّیة على تلبية احتیاجاتهم المعیشیة. أمّا على المستوى الكلّي، فإن معدّلات التضخّم تؤثر على مستویات الاستهلاك، الاستثمار، الصادرات، وعلى القوّة الشرائیة للعملة المحلیة، ومن ثمّ على النشاط الاقتصادي بشكل عام».
وتُظهر مسوح الأمن الغذائي الأربعة، التي أجرتها الحكومة السورية بالتعاون مع «برنامج الغذاء العالمي» خلال الفترة الممتدّة من عام 2015 وحتى نهاية عام 2021، كيف أسهمت المتغيرّات التي طرأت على واقع التضخّم في تحسين أو تراجع حالة الأمن الغذائي للأسر السورية. فمثلاً، أشارت نتائج مسح عام 2015 إلى أن نسبة الأسر السورية الفاقدة لأمنها الغذائي بلغت حوالي 33.4%. ومع تحسّن الأوضاع الأمنية وتراجع أو استقرار معدّل التضخّم في عام 2017، انخفضت النسبة لتصبح عند عتبة 31%، ثمّ عاودت الارتفاع مع نهاية عام 2020 لتصل إلى أكثر من 55% تحت ضغط ارتفاع معدّلات التضخّم، في مستوى لم تشهده البلاد من قبل، وذلك بدءاً من الربع الأخير من عام 2019.

المستفيدون في كل زمان
تحوُّل التضخّم إلى كابوس مرعب يهدّد لقمة عيش الكثيرين، لا يعني أنه كذلك بالنسبة إلى فئات أخرى، كانت دخولها الحقيقية تزداد مع كلّ موجة تضخّم تضرب البلاد، أو على الأقلّ كانت دخول بعضها تتماشى لحظياً مع مؤشّر التضخّم. وهذه الفئة تضمّ، وفقاً لدراسة أعدّها أخيراً الباحث الاقتصادي شامل بدران، «المنظمين، أصحاب المزارع، المقاولين، الصناعيين، الوسطاء، ذوي المهن الحرة، وأصحاب الشركات التجارية». ويبرّر بدران هذا التصنيف بأن «دخول معظم تلك الفئات تتّسم بالمرونة، والاستجابة السريعة لتغيّرات المستوى العام للأسعار».
من جهته، يضيف حزوري إلى مَن تقدّم ذكرهم «أصحاب الثروات الكبيرة (غير المسيّلة نقدياً بالعملة المحلية)، وكبار المدينين للبنوك، الذين حصلوا على قروض كبيرة من البنوك المحلية قبل أن يتراجع سعر صرف الليرة بشكل كبير، وبذلك فهم عندما يسدّدون ما يترتّب عليهم من أقساط مصرفية، فإنهم فعلياً لا يسدّدون سوى جزء قليل من المال الذي اقترضوه. وكلّ هذا ترافق مع اضمحلال أو زوال الطبقة الوسطى، واتّجاهها للانضمام إلى طبقة الفقراء وذوي الدخل المنخفض جداً». ويخلص حزوري إلى أن «التضخّم أفاد القطاعات غير الإنتاجية الحقيقية، كالعقارات، الاستيراد والتصدير، قطاع البنوك والمصارف، والتي تعكس نتائجها السنوية الأرباح الكبيرة المحقّقة، وأحياناً تكون أكبر من رأسمالها الأسمي، وهناك أيضاً الاقتصاد الباطني المتضمّن عمليات التهريب والتجارة غير المشروعة».
وهكذا، أكمل التضخّم - ولا يزال -، بمعدّلاته الجامحة، ما بدأته السياسات الاقتصادية، التي غضّت الطرف عن التشوّهات البنيوية العميقة، وأسهمت أكثر فأكثر في تعزيز الخلل الحاصل في توزيع الدخل القومي، بحيث باتت الحرب السورية مرافقة في بُعدها الاقتصادي للعبارة الشهيرة: «غنى أكثر فقر أكثر»، إذ إن التضخّم، كما يذكر بدران، «يعمل على إعادة التوزيع، بحيث يحصل أصحاب المشروعات على نصيب أكبر من التوزيع، وتتعاظم أرباح المنظّمين بصورة واضحة نتيجة الفرق بين تكاليف الإنتاج وبين أسعار المنتجات التي ترتفع بمعدّلات أعلى، وفي الوقت نفسه يصادر التضخّم مدّخرات ودخولاً حقيقية من فئات بقيت دخولها ثابتة، أو ارتفعت بنسبة أقلّ من ارتفاع تكاليف المعيشة لمصلحة أولئك الذين ازدادت دخولهم بنسبة أكبر من نسبة ارتفاع تكاليف المعيشة».