ما قيل عشية تشكيل الحكومة عن مهمتها الفعلية الوحيدة بضمان إجراء الانتخابات النيابية لا يزال الكلام الوحيد «المفيد» حتى الآن، فيما غالبية القوى السياسية الناشطة لترتيب أوضاعها الانتخابية، تبقي الباب مفتوحاً أمام مفاجأة قد تجعل الانتخابات في خبر كان. أما ما بات معروفاً من ترشيحات أُعلنت أو في طريقها إلى الإعلان، سواء من القوى الأساسية أو من دعاة «التغيير»، فلا يبشّر بتغيير حقيقي.خارجياً، تتواصل الضغوط على لبنان من بوابة العقوبات الأميركية. والأمر لا يقتصر على لوائح دورية بأسماء من قررت أميركا أنهم يموّلون المقاومة، بل عن تهديد يومي لعشرات السياسيين من مغبّة الذهاب إلى تحالفات انتخابية قد تجعل النتائج في مصلحة حزب الله وحلفائه، إضافة إلى الضغط المتواصل من أجل إقرار صفقة ترسيم الحدود بما يناسب العدو. وفي هذا السياق، يأتي الابتزاز الأميركي البشع بربط أي دعم لقطاع الطاقة بإنجاز ملف الترسيم.
داخلياً، تتفاقم الأزمة المتصلة بشلل الدولة. الموازنة القائمة على مبدأ التقشف تعني أمراً واحداً، وهو أن لا حركة اقتصادية في البلاد بل شلل فعلي، مقابل تعطّل الإدارات العامة واحدة تلو أخرى، وتراجع حاد في القدرة الشرائية لموظفي القطاعين العام والخاص مترافقاً مع موجة جديدة من جنون الأسعار.
عملياً، لم تفعل الحكومة شيئاً في مواجهة الأزمات المتنوعة، بينما يبقى الملف المالي والنقدي المرتبط بمصير التدقيق في حسابات المصرف المركزي، والاشتباه في إقدام الحاكم رياض سلامة على اختلاس أموال عامة، ملفاً حاراً، ليس بفعل النشاط المحدود في لبنان، بل بفعل الضغط الخارجي على خلفية الملاحقات القضائية، مع بروز إشارة «يمكن البناء عليها»، على حد تعبير مرجع كبير، تفيد بأن الأميركيين أنفسهم باتوا في وضع دفاعي صعب عن الحاكم. كما أن الحلقة الداخلية المتمثلة في تحالفه القوي مع القطاع المصرفي تتعرض لاهتزاز فعلي بفعل التحقيقات القضائية مع أصحاب المصارف. وهو ما انعكس أزمة ثقة عميقة بين سلامة والمصارف، لا سيما الكبيرة منها التي باتت تشعر بأن الحاكم مستعد لـ«بيعها» من أجل حماية نفسه.

ترسيم الحدود
من الواضح أن الرسالة الأخيرة التي حملتها السفير الأميركية دوروثي شيا من الموفد الإسرائيلي (حامل الجنسية الأميركية) عاموس هوكشتين في شأن الترسيم أعادت الأمور إلى نقطة الصفر. إذ اعتبر هوكشتين أن لبنان يقرّ بأن حدوده عند الخط 23، لكنه اتفق مع الإسرائيليين على أن ذلك ليس حقاً مقدساً للبنان، وطالب بحصّة في البلوك رقم 8. هذه الخطوة أدّت ليس إلى تجميد البحث في خطوات عملانية سريعة فحسب، بل إلى تعمق الخلاف الداخلي حول طريقة التعامل مع الملف. إذ إن رفض ثنائي أمل - حزب الله المشاركة في لجنة (تضم ممثلين عن رئاستي الجمهورية والحكومة ووزارات الدفاع والخارجية والطاقة) لدرس الطلب الأميركي، حمل رسالة يفسرها مطّلعون بأنها تعكس تمسكاً باتفاق الإطار (على كل مساوئه) لناحية إجراء المفاوضات برعاية الأمم المتحدة وتقييد حركة الوسيط الأميركي بلعب دور المسهل فقط، وهو ما حاول هوكشتين الإطاحة به. كما حمل موقف الثنائي رسالة أكثر حدّة من خلال تصريحات رئيس كتلة الوفاء للمقاومة النائب محمد رعد الذي قال، ببساطة، إنه «لا تنقيب عندنا يعني لا تنقيب عند غيرنا». واتضح أن موقف رعد لا ينطوي على تحفظ عن أي تنازل في مجال الحصص فحسب، بل حمل جواباً مباشراً على رسالة عاجلة وردت من فرنسا وشركة توتال بعدم الاستعداد لأي عمل في البلوكات اللبنانية قبل الوصول إلى اتفاق نهائي على الترسيم. عملياً، يعني ذلك أن حزب الله قرّر أنه في حال منع الأميركيون فرنسا من القيام بأعمال تنقيب في بلوكات لبنانية خالصة، ستمنع المقاومة أي شركة عالمية، أميركية كانت أم أوروبية من القيام بأي أعمال تنقيب في النقاط الحدودية من الجانب الفلسطيني. وفي هذا عودة إلى مربع التوازن، وهو أمر يمكن ملاحظته حتى في اتفاق الإطار الذي لا يغفل تفاهم نيسان (توازن حماية المصالح المدنية ودور الأمم المتحدة) ولا القرار 1701 الذي ينظم إدارة الاستقرار الأمني على جانبي الحدود.
ابتزاز اميركي: اي دعم لقطاع الطاقة مرتبط بانجاز ملف الترسيم البحري مع العدو


تداعيات ملف الترسيم لا تقف عند هذا الحد. فقد علمت «الأخبار» من مصدر مصري مطلع أن القاهرة ليست في وارد توقيع اتفاقية توريد الغاز إلى لبنان قبل الحصول على ورقتين: الأولى تتعلق بإعفاء واضح وصريح وكامل من عقوبات قانون قيصر، والثانية تتعلق بموافقة صريحة وموثقة ومبرمجة من البنك الدولي على تمويل العملية. وأضاف: «الأميركيون قالوا لنا، صراحة، إن الأوراق ليست جاهزة بعد، وإن ملف الكهرباء الأردنية مرتبط بالاتفاق أولاً على جر الغاز المصري. وهو ما تبلغه لبنان أيضاً من الجانب الأردني».
وفي ما يتعلق بالمفاوضات مع البنك الدولي لتمويل المشروع، تؤكد مصادر وزارة الطاقة حصول تقدم «إجرائي» لكنه ليس حاسماً، وأن الأمور عالقة في انتظار اجتماعات مجلس إدارة البنك الدولي. ونقلت عن مسؤولين في البنك إشارتهم إلى «تأخير إضافي» بسبب انشغال العالم بالحرب بين روسيا وأوكرانيا من جهة، ولأن ما تعرضه شركة كهرباء لبنان من خطط لتحقيق وقف فعلي في الهدر وتأمين عائدات جدية ليس واضحاً أو مقنعاً.
وبالطبع، ليس متوقعاً أبداً أن يصدر موقف لبناني رسمي يحمّل الأميركيين مسؤولية التأخير وابتزاز لبنان بملفي الترسيم والطاقة بسبب الخشية من إغضاب الأميركيين. إلا أن رئيس الحكومة نجيب ميقاتي، المسؤول عن السلطة التنفيذية، لا يمارس في الوقت نفسه أي ضغط على حاكم مصرف لبنان لصرف المبالغ التي تطالب بها وزارة الطاقة (نحو 250 مليون دولار) لشراء كميات إضافية من الفيول ولتلبية حاجات موزعي الخدمات ومشغلي المحطات وصيانة الشبكات.

ارتفاع الأسعار
وسط هذا الجمود السياسي والحكومي والإداري، يشهد لبنان موجة جديدة من ارتفاع الأسعار في ظل انقطاع سلاسل التوريد وزيادة كلفة الشحن والتأمين البحري المرتبط به. وتتركز الأزمة في ملف القمح. إذ أن المخزون من هذه المادة الحيوية لا يكفي أكثر من شهر ونصف شهر حدّاً أقصى، مع بدء التهافت على القمح. وفيما تبدو الحكومة في «كوما»، تشير المعطيات إلى اتصالات مع السفيرة الأميركية التي وعدت بتأمين كمية من القمح وصوامع متحرّكة للتخزين، لكن مثل هذه الآلية تتطلب بين ثلاثة وأربعة أشهر. كما يسوّق وزير الاقتصاد أمين سلام بأنه يسعى لشراء القمح من كندا. علماً أن الوقت الذي يستغرقه وصول البواخر من كندا إلى لبنان لا يقل عن أربعة أشهر.
وفي غياب أي آلية واضحة لمواجهة الأزمة، يتوقع أن تتفاقم قريباً أيضاً أزمة السكر بعد ارتفاع الطلب العالمي على هذه المادة، لا سيما أننا على أبواب شهر رمضان عندما يرتفع الطلب على السكر، وفي ظل قرار الجزائر وقف تصديره، فيما أقرب موعد ممكن للحصول على السكر من المغرب ليس قبل حزيران المقبل.
أما مخزون المشتقات النفطية، فالخلاف حالياً لا يتعلق بالمخزون وتوافر الكميات بمقدار ما يتعلق بالتسعير اليومي الذي يريده التجار. وقد رفض الوزير طلب الشركات وأصحاب المحطات زيادة جديدة تقدر بنحو عشرة في المئة ربطاً بارتفاع الأسعار عالمياً. وقرر وزير الطاقة التمهّل في إصدار جدول تركيب الأسعار. وعليه، فإن المشكلة الأكبر ستكون لدى أصحاب مولدات الأحياء الذين بدأوا تقنين التغذية بالتيار. فيما يسجّل نشاط ملحوظ في تخزين البنزين والمازوت والطحين، ما يقود تلقائياً إلى توقع نشاط السوق السوداء في الأيام المقبلة.