تونس | بعدما جدّد، مساء الخميس الماضي، عزمه على حلّ المجلس الأعلى للقضاء، متجاهلاً إضراب القضاة صبيحة اليوم نفسه، وانتفاضة المجلس دفاعاً عن وجوده وصلاحياته، نفّذ الرئيس التونسي، قيس سعيد، وعيده، بإصداره، منتصف ليل الأحد، مرسوماً رئاسياً يقضي بحلّ «الأعلى للقضاء»، وتعيين مجلس جديد مؤقّت مكانه، في ما بدا إعلاناً متسرّعاً ومتنازَعاً بين الرغبة في إسكات الأصوات المطالبة باحترام المعايير الديموقراطية، وبين رغبة أخرى جليّة في النص الجديد في جعل الرئيس جوهر العملية القضائية، بنقل صلاحيات المجلس إلى شخصه حصراً. ويتمظهر هذا التنازع، مثلاً، في عدم السماح بنقل القاضي من المحكمة التي يباشر فيها عمله من دون موافقة مكتوبة، والسماح له بعد التظلّم لدى المجلس الجديد المؤقّت من نقله تعسّفياً، بالتظلّم أيضاً لدى رئيس الجمهورية، وهو ما يتوافق مع النصّ الدستوري والمعايير الدولية. في المقابل، يخاطب المرسوم العوام عبر منع القضاة من الإضراب وسحب هذا الحق النقابي منهم، ولا سيّما بعد ما عاناه التونسيّون السنة الماضية من إضراب تجاوز الشهرين، ظلّت فيه الملفات معلّقة، والمودَعون في السجن ينتظرون استئناف العمل حتى يُبتّ بشأن إطلاق سراحهم. وأمّا الأطراف الخارجية، فيتوجّه إليها الإعلان بالنصّ على أنّ الرئيس لا يعيّن من أعضاء المجلس إلّا ثلاثة، هم قضاة متقاعدون لم يعُد لهم تأثير مباشر في سير القضايا، بما يبعد عنه تهمة اختيار المقرّبين منه لإخضاع السلك لسلطته.على أنّ كلّ ما سبق لا ينفي عن المرسوم الرئاسي تعسّفه على استقلالية القضاء، ودوسه على أهمّ ركن فيها، وتجاوزه دور السلطة التنفيذية في الرقابة، إلى التدخّل السافر والتحكيم غير المضبوط بأيّ ضمانات تحمي القضاة. فهو وإن يقرّ باستقلالية المجلس الجديد وظيفياً ومالياً وإدارياً، يُبقي لرئيس البلاد سلطات مختلفة تتيح له تدخلاً واسعاً في شؤونه، من بينها أنه يمكن له الاعتراض على ترشّح القضاة لعضوية المجلس، ومنها أيضاً تنصيب نفسه خصماً وحَكماً، بحيث يعترض على نقل قضاة أو ترقية أو غيرهما، ويقضي بقبول اعتراضه من عدمه. وتُضاف إلى ذلك أكثر الصلاحيات خطورة، وهي صلاحية إعفاء القضاة من مهامهم في حال تراءى له فسادهم أو محسوبيّتهم، ما يعني أنه يضع نفسه مرة أخرى خصماً وحَكماً. هكذا، يواصل سعيد تحويل الديموقراطية الوهنة في البلاد، إلى ديكتاتورية مغلّفة بخطاب التعفّف عن مغانم السلطة وقبولها إكراهاً وتكليفاً لا تشريفاً، وهو ما تستسيغه المخيّلة التونسية المتصالحة مع نموذج «المستبدّ المستنير» كالحبيب بورقيبة مثلاً، أو «المستبدّ العادل» الذي يوفّر للطبقات الوسطى والمعدومة قوت يومها. على أنّ هذا التحوّل ليس بالبساطة التي يحاول خصوم سعيد تصويرها في مخاطبتهم الدوائر الأجنبية بحثاً عن تعاطف؛ فالتركيبة السائدة في البلاد موسومة بالتعقيد منذ أيام زين العابدين بن علي، وبدلاً من أن تحلّ انتفاضة 2011 تلك التعقيدات، خطت النخب الحاكمة في العقد الماضي كلّ الخطوات الممكنة لتخريب الانتفاضة وتفصيلها على مقاسها، متوهّمة بدوام موقع السلطة.
التركيبة السائدة في البلاد موسومة بالتعقيد منذ أيام زين العابدين بن علي


وليست معركة استقلالية القضاة بعيدة من ذلك السياق؛ فهي عنوان رُفع منذ فجر الانتفاضة بمطالبة السياسيين المعارضين لنظام بن علي، بمحاسبة القضاة الذين استعملهم لقمعهم وقمع التحرّكات الاحتجاجية بوجهه. ولكن هل نجحت قوى ما بعد الانتفاضة في إصلاح المؤسسة القضائية وتحويلها من أداة قمع وتصفية خصوم مقابل الحماية والامتيازات، إلى مرفق قضائي عادل يضمن الحقوق ولا يجور على أصحابها؟ والسؤال هنا يطال تحديداً «الترويكا» الحاكمة، وخاصة حزب «النهضة» الذي تولّى مهمّتَي التشريع بأغلبيته النيابية، وإدارة السلطة القضائية عبر ترؤّس قياديّه نور الدين البحيري لهذه الوزارة، أو عبر تكنوقراط كانت لـ«النهضة» الكلمة الفصل في تعيينهم. الإجابة، كما وردت على لسان القضاة أنفسهم هي لا قاطعة. تَمثّل أوّل إجراءات الإصلاح من منظور «النهضة» وحلفائها في الحكم، في قيام وزير العدل الأسبق، نور الدين البحيري، في 2012، بطرد 82 قاضياً من دون أيّ إجراءات تَحفظ حقهم في محاكمة عادلة أو مبدأ المواجهة وقرينة البراءة لفائدتهم. والمثير للسخرية، هو إعادة هيئة نظام بن علي التي كانت تتولّى فصل القضاة ونقلهم والإشراف على مسارهم المهني، وتمّ عزلها سنة 2011، فقط لغاية طرد القضاة، ما استدعى رفضاً حقوقياً واسعاً، واعتصاماً للقضاة دفاعاً عن زملاءهم، انتهى بتجاهلهم وضياع حقوق المعزولين ووصمهم بالفساد من غير أيّ إثبات، فيما لا تزال قضايا بعضهم إلى اليوم في المحاكم من دون أحكام باتّة بإعادتهم إلى مناصبهم أو طردهم.
أمّا ثاني خطوات «الإصلاح»، على رغم آلاف الندوات التي نظّمتها «جمعية القضاة» وقدّمت فيها حلولاً وتصوّرات وأعقبتها بمئات ورشات العمل، فتمثّلت في دستور سنة 2014، الذي انشغل التونسيون خلال سنّه بمعركة الشريعة الإسلامية وتضمينها في أبوابه ومواد الحقوق والحريات، وغفلوا عن النظام السياسي والسلطة القضائية وبقية الهيئات. فالدستور تضمّن «عنواناً رومنسياً» عن استقلالية القضاة وانعدام أيّ سلطان عليهم إلّا القانون، ولكنه أفرغ «المجلس الأعلى للقضاء» من صلاحيات غاية في الأهمية، من بينها البتّ في المسار المهني للقضاة، والذي جُعل رهينة مصادقة السلطة التنفيذية، والمسار التأديبي الذي رُبطت إمكانية إثارته ضدّ قاض مشتبه في فساده، بتقديم تفقدية القضاة التابعة لوزارة العدل تقريراً فيه. ومن هذا المنطلق، سادت المحاباة للسلطة التنفيذية، فيما جرى التشفّي من القضاة غير المطيعين. و«المجلس الأعلى» بذاته كان شاهداً على صراعات أعضائه وانقساماتهم نتيجة ولاءات فئة واسعة منهم لأحزاب سياسية نافذة. ويُضاف إلى ما تَقدّم، الغضب الشعبي نتيجة تعسّف بعض القضاة، واستخدامهم سلطتهم لتصفية حساباتهم، وحتى في حال التشكّي عليهم، فلن يجني الشاكي إلّا فصلاً جديداً من الجور، وربّما سنوات في السجن طوال فترة إجراءات التقاضي، قد تصل إلى خمس سنوات بسبب جنحة بسيطة تتوقف فيها حياة المعنيّ بالأمر انتظاراً لحكم بالبراءة أو بالإدانة، فيما تتجاهله العدالة ولا تعني حياته شيئاً في نظر القاضي.
على هذا النحو، بدت المعادلة ملائمة تماماً لسعيد ليسدّد رميته بنجاح: قضاء تتصارع أجنحته في البلاتوهات الإعلامية لعقد من الزمن وتتقاذف التهم بالفساد، منظومة قانونية معتلّة، وعشرات آلاف المتقاضين الغاضبين من بطء العدالة وانحيازها في أغلب الأحيان، فيما يراها تبّت سريعاً بالبراءة أو التأجيل إلى ما لا نهاية في قضايا يكون أطرافها سياسيون أو مقرّبون منهم. أمّا الهياكل المهنية للقضاة، فقد انقسمت بدورها على نفسها، ما بين فريق يضمّ «جمعية القضاة التونسيين» و«اتحاد القضاة الإداريين»، وآخر يشمل «نقابة القضاة» و«نقابة المحامين»، لتُسهّل هي الأخرى على سعيد مهمّة تهشيم الجسم القضائي والسيطرة عليه.