شكّل الاصطدام بالمرجعية الدينية في النجف، محطّة سلبية على طريق مشروع مقتدى الصدر لحُكم العراق، خاصة أن هذا المشروع لا يرتكز إلى قوّة «التيار الصدري» ذي البنية التنظيمية المتماسكة، بقدر ما يعتمد على تشرذم القوى الأخرى، وتعدّد المشاريع العراقية ربْطاً بالانقسامات على أسس عرقية وطائفية، أو تلك التي تطاول الأحزاب نفسها، ما منح الصدر مرونة عالية في نسج التحالفات.على أن طريقة تحكُّم الرجل بتيّاره، والتي ظهرت في اليومين الماضيين في بيانات الأخير التي تبدأ بعبارة «بأمر من سماحة القائد»، صارت تثير مخاوف العراقيين من ديكتاتورية جديدة، ولا سيما بعد محاولة تجاوُز المرجعية من قِبَل أحد أبرز قادة التيار، حازم الأعرجي، الذي أعلن أن «القرار العراقي يَصدر حصراً من الحنانة»، مقرّ إقامة الصدر قرب النجف، الأمر الذي أشعل موجة غضب تُرجمت بتظاهرات شعبية وحملة ضدّ الصدر على وسائل التواصل الاجتماعي، لم يُفِد في إخمادها تصريح الأعرجي اللاحق، والذي قال فيه إن «سماحة السيد مقتدى الصدر أمرني بالاعتذار».
هذه «العقوبة» المخفَّفة على الأعرجي لتطاوُله على المرجعية والملايين من أتباعها، أثارت انتقادات، خاصة أن الصدر معروف باتّخاذ إجراءات الطرد أو التجميد للمخالفين. وقورن ردّ فعله هذا بمسارعته إلى إصدار بيانات إدانة، وتجميد مسؤول في التيار لأنه انتقد الراقصة رنين تبوني، التي قالت في مقابلة تلفزيونية، وهي نصف عارية، إنها «تؤيّد بشدّة السيد مقتدى». السقطة بحقّ المرجعية بالذات، قد تكون نقطة تحوُّل في مسار تشكيل الحكومة العراقية الجديدة، خاصة أن جزءاً خفيّاً من قوّة «التيار الصدري» قائم على ما يبدو أنه حياد سياسي لدى المرجعية، أتاح للتيار تصوير نفسه على أنه متماهٍ معها عبر إطلاق شعارات مكافحة الفساد، التي جعلها الصدر عنواناً لمساعيه لتشكيل حكومة «غالبية وطنية»، تستبعد الطرف «الشيعي» الآخر كلياً، أو تقسِمه إلى نصفين.
وتكتسي محاولة تجاوُز المرجعية الدينية حساسية خاصة، كون الصدر باعتباره رجل دين وابن المرجع الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر، يطمح إلى أن يكون هو المرجع الأكبر للشيعة في العراق، خاصة أنه يتابع علومه الدينية في مدينة قم، مستفيداً من تعدّد الحوزات الشيعية، على رغم أنه يرفض النفوذ الإيراني في العراق.
وذهبت الحملة على الصدر إلى حدّ اتهامه بإضمار مشروع سيؤدي في النتيجة إلى رهْن البلاد للولايات المتحدة وبريطانيا والسعودية والإمارات، التي اعتبر كثيرون أن الرجل يتماهى مع حاكمها محمد بن زايد، الذي يتصدّى اليوم لإدارة الشأن العراقي، في ما يشبه تنطّح قطر لإدارة الملفّ السوري في بداية الأزمة السورية، قبل أن تدْخل الرياض لاحقاً على الخطّ، وتعْهد بإدارة الملفّ إلى بندر بن سلطان.
وعليه، لم يكن أمام رجل الدين الشابّ سوى إجراء إعادة تقييم، ومن ثمّ توجيه نوابه بعدم حضور جلسة انتخاب رئيس الجمهورية المقرَّرة اليوم، وإعلانه تجميد مفاوضات الحكومة الجديدة.
الخلاف الكردي على الرئاسة صار يمثّل عقبة أخرى في وجه الطموحات «الصدرية»


الخلاف الكردي على الرئاسة صار يمثّل، هو الآخر، عقبة في وجه الطموحات الصدرية، باعتبار أن حليف الصدر، مسعود بارزاني، يريد استخدام انتخابات الرئاسة لحسابات كردية، ولذا رشّح القيادي في «الحزب الديموقراطي الكردستاني»، هوشيار زيباري، للرئاسة، في وجه الرئيس الحالي ومرشّح «الاتحاد الوطني الكردستاني»، برهم صالح، قبل أن تقرّر المحكمة الاتحادية، أمس، إيقاف إجراءات ترشيح الأوّل، بسبب تهم فساد كان قد أقيل بسببها في البرلمان، من منصبه في وزارة الخارجية.
وعلى رغم ذلك، أكد الصدر لبارزاني، وفق بيان لمكتب الأول بعد اتّصال هاتفي بينهما ليل السبت - الأحد، أن التحالف الاستراتيجي بين الجانبَين متماسك وماضٍ نحو تشكيل حكومة «غالبية وطنية»، علماً أن الصدر، الذي لديه 73 نائباً في البرلمان المكوَّن من 329 مقعداً، يحتاج إلى «الحزب الديموقراطي، الذي يمتلك 31 نائباً، إلى جانب نواب تحالف «السيادة» المندمج بين رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي وخميس الخنجر، وعددهم 67، لتشكيل الحكومة. بارزاني، من جهته، لديه حساباته الكردية الخاصّة، فهو يريد اغتنام فوْز حزبه بالعدد الأكبر من النواب الأكراد في مجلس النواب العراقي، لإضعاف غريمه، «الاتحاد الوطني»، الذي يعاني من انقسامات داخلية منذ غياب قيادته التاريخية المتمثّلة بجلال الطالباني، وذلك عبر إقصاء برهم صالح عن الرئاسة. وهو سعى لاستبعاد صالح عبر الطلب إلى «الاتحاد» ترشيح شخص غيره للرئاسة، الأمر الذي رفضه الأخير، معتمِداً على سيطرته العسكرية على نصف «كردستان العراق» ، لفرض أحقيّته بالمنصب، وفق ما هو متّفق عليه بين الحزبَين الكرديَّين الرئيسيَن، بمعزل عن نتائج الانتخابات.
في الخلاصة، لا تبدو الطريق معبّدة أمام الصدر لتحقيق هدفه الأول المتمثّل في إضعاف حلفاء طهران في الحُكم، ومن ثمّ استخدام الحكومة الجديدة لإعادة هيكلة «الحشد الشعبي»، الذي يمثّل نقطة القوّة الرئيسة لدى خصومه، تمهيداً للتحكُّم بالقرار «الشيعي» في العراق. وما يضفي المزيد من التعقيدات، هو أن الحياد الإقليمي الذي يرفع الصدر لواءه، لا يعدو كونه وهماً في بلد كالعراق، يتشابك فيه هذا الكمّ من التدخلات الخارجية؛ إلى حدّ أن المشهد صار مقسوماً بوضوح بين إيران من جهة، والتحالف الآخر الذي صار يضمّ أميركا والسعودية والإمارات إلى تركيا وإسرائيل، من جهة أخرى.
وفوق ذلك كلّه، يفتح هذا الصراع البلد على إمكانات تفجير أمني كبير تتزايد علاماته يوماً بعد آخر، ومنها أخيراً الدخول العسكري التركي على الخطّ من خلال الغارات الجوّية التي أوقعت خسائر بشرية في شمالي العراق، تحت عنوان محاربة «حزب العمال الكردستاني»، الأمر الذي حدا بـ»كتائب حزب الله»، إلى توجيه تحذير شديد إلى أنقرة، بقولها في بيان: «لقد بلغ السَّيْل الزُّبى، فكفاكم استهتاراً بأرواح أبنائنا. والشعب الذي كسر جبروت أعتى قوة في العالم قادر على تمريغ أنوفكم».
وعلى رغم ما تَقدّم، ما زالت الوجهة التي ستتّخذها الأحداث في العراق، رهناً بما سيفعله الصدر، على رغم أنه أظهر مرّة بعد أخرى منذ الانتخابات تمسّكه بموقفه، بما يرجّح كون خياره الحالي نهائياً، إلّا إذا أدّت الظروف إلى تغيير قناعاته.