كان وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان أول من أطلق توصيفاً للوضع اللبناني السائر نحو الانهيار. لم يكن وصفه لبنان بـ«تيتانيك»، وبأن اللبنانيين في حالة إنكار، أقل التوصيفات. يئس لودريان من الوضع اللبناني، كما يئس من إدارة بعض الدوائر الفرنسية للملف الشائك، وتوقف عن بعث رسائل حوله. مع ذلك، ظل كلامه صدى عن حقيقة ما يعيشه البلد الذي ينهار في صورة دراماتيكية «من دون أوركسترا ومن دون موسيقى»، كما قال الوزير الفرنسي.جاء سكرتير الفاتيكان للعلاقات مع الدول، أي وزير الخارجية، بول غالاغر، إلى بيروت حاملاً توصيفات مماثلة عن الوضع، ليس أقلها حديثه عن السياسيين اللبنانيين وعمن هم في السلطة للتخلي عن العمل لمصالحهم الخاصة، ورسائل واضحة إلى الكنائس. وسيعود المسؤول الفاتيكاني إلى الكرسي الرسولي، وسيظل صدى كلامه العلني وفي المجالس المغلقة يتردّد. لكن أي تغيير فعلي لن يحصل، طالما أن التوصيفات هي التي تحتل صدارة الحدث المحلي، وكأنّ اللبنانيين لا يزالون يحتاجون إليها لإدراك حقيقة المسؤولين اللبنانيين.
إلا أن الاهتمام غير العادي بالزيارة، التي تحمل طابعاً ديبلوماسياً يُحضر لها منذ أشهر، ولا علاقة لها من قريب أو بعيد بأي إعداد لزيارة البابا فرنسيس لبيروت، يعكس مدى الحاجة اللبنانية إلى أي خيط خارجي يؤمل منه فتح ثغرة في الجدار المقفل.
غالاغر من المسؤولين الفاتيكانيين النافذين في السنوات الأخيرة، قويّ الشخصية ويحمل في جعبته ملفات كثيرة وشائكة، ومُطّلع لبنانياً على الكثير من الحقائق، ليس عبر الأقنية الكنسية المعتادة. ورغم أنه ديبلوماسي بالمهنة الموكلة إليه، إلا أن كلامه لا يحمل الكثير من الديبلوماسية في التعبير عن مواقفه، الصريحة والواضحة، وتوجيهه رسائل حازمة.
قبل أن يأتي إلى لبنان، كان غالاغر يفسّر بصراحة مواقف عامة للبابا فرنسيس، هكذا فعل في أكثر من مناسبة التقى فيها شخصيات ووفوداً لبنانية، تتعلق بالأوضاع الداخلية وبرؤية عواصم القرار تجاه قضايا لبنانية. وهو نفسه الذي كان عرّاب اللقاء الذي جمع صيف عام 2021 البابا مع القادة الروحيين المسيحيين بناءً على طلب من الكنيسة الأرمنية الأرثوذكسية، للبحث في شؤون الكنائس وما تقوم به لخدمة اللبنانيين في ظل الظروف الاقتصادية والاجتماعية المتدهورة.
حضوره إلى بيروت ومستوى لقاءاته المتنوّعة، حمل في طياته بعدين، يتعديان أهمية الشراكة المسيحية - الإسلامية في ظل عنوان السينودوس من أجل لبنان، في ذكرى مرور 25 سنة على زيارة البابا يوحنا بولس الثاني. البعد الأول سياسي يحمل إشارات داخلية وإقليمية. في لقاءات كنسية، بدا اطّلاعه كاملاً على الوضع الداخلي بتشعباته وصراعاته. يعرف الأدوار المحلية والإقليمية في لبنان، ورغم أنه لا يحمل مبادرة بالمعنى الحرفي، إلا أنه أراد الاستماع إلى ما يريده من التقاهم أَفرادياً وجماعياً، وماذا يريد المسيحيون واللبنانيون إذا وُضع لبنان على طاولة الحوار الدولية. وهو وجّه رسائل واستمع إلى أسئلة صريحة من محدثيه من رجال دين، وكانت له إشارات عن الحوار مع واشنطن حول ملفات لبنانية شائكة، في سعي إلى فكفكة الألغام أمام التهدئة الداخلية. تحدث عن التدخلات الخارجية، ولم يطلق اتهامات بالمعنى المباشر. لا بل إنه طرح أفكاراً يمكن الاستدلال منها على فتح باب الحوار الدولي في شأن مستقبل لبنان. ولم يكن مؤيداً لأفكار فضفاضة، بل كان منحازاً إلى أفكار عملانية. أشاد بفكرة الحياد لكنه اعتبرها واسعة وتحتاج إلى كثير من الجهد لتحقيقها في ظل أزمات الشرق الأوسط المتداخلة. في المقابل لم يكن رحيماً مع الطبقة السياسية. ما قاله في العلن قاله وراء الأبواب، لم يوفر جهداً للتعاطف مع اللبنانيين إزاء مسؤوليهم.
ما يصل إلى الفاتيكان وممثليه في بيروت عن أوضاع اللبنانيين عموماً، ورعايا الكنائس، غير مُرضٍ


الشقّ الثاني من الزيارة كنسي اجتماعي، والبابا يعوّل عليه بقوة، لأنه استكمال الدعوة البابوية إلى الكنيسة المارونية والكنائس الغربية في لبنان لمعرفة ماذا تحقق من وعود أطلقتها الكنائس في شأن التربية والصحة. في هذين الموضوعين، لا يجب التقليل من أهمية الكلام الفاتيكاني في بيروت، لأنه يستكمل رؤية البابا التي أعلنها أمام وفود لبنانية أخيراً «حول بساطة الكنيسة وعدم جواز ثرائها مقابل تقهقر أوضاع مؤمنيها». في هاتين النقطتين الكلام واضح وصريح، وبعض من في لبنان ومن زوار الكرسي الرسولي لم يكونوا مرتاحين للكلام البابوي. غالاغر أراد استكمال جمع المعطيات عما تفعله المؤسسات الكنسية التربوية والصحية. فالكنيسة مسؤولة مباشرة وغير مباشرة عن جزء أساسي من المدارس والمستشفيات. والوعود التي أعطيت في الصيف الماضي لا يبدو أنها تحققت في شكل مُرضٍ، بدليل ما يصل إلى الفاتيكان وممثليه في بيروت عن أوضاع اللبنانيين عموماً، ورعايا الكنائس، من فقر مدقع ومن تعذّر الطبابة في مستشفيات «مسيحية» الطابع وتقهقر أوضاعها. وربما يكون بعض مسؤولي الكنيسة غير مرحّبين بكلامه ورسائله، تماماً كما بعض المسؤولين السياسيين، لأن الديبلوماسي الذي أراد أن يقف على حقيقة الخطوات التي تحقّقت، يعرف أن جزءاً من الحلول الاجتماعية في يد المسؤولين الكنسيين ومؤسساتهم، وهي تتحقّق بفعل مبادرات فاعلة، وإذا كان حل الأزمة اللبنانية ككلّ مرهوناً بحوارات إقليمية ودولية، فعلى مَن في الكنيسة تحمل مسؤوليتهم. وهذا تنبيه لا يحبه الكثير من الأساقفة والكهنة.