لندن | على رغم ردّة الفعل السلبية من جهات مختلفة في بريطانيا، على منْح توني بلير أعلى أوسمة المملكة المتّحدة وتطويبه فارساً ضمن قائمة التشريفات الملَكية للعام الجديد، فإن الأمر ليس مدعاةً للاستغراب. فهذا الرجل الذي تولّى أعلى منصب تنفيذي في السلطة البريطانية، رئيساً للوزراء لعقد كامل (1997 – 2007)، أدّى للدولة العميقة في الإمبراطورية المتقاعدة وللسيّد الأميركي سلسلة خدمات ثمينة باسم اليسار والطبقة العاملة – بوصفه رئيساً لـ«حزب العمل» -، لم يكن ليُقدِم عليها أعتى سياسيّي اليمين المتطرّف. إرث بلير السياسي ارتبط دائماً بالحرب الأميركية على العراق في عام 2003، والدور البريطاني فيها. وكان أكثر من مليون عراقي قضوا نحبهم نتيجة العدوان الذي شنّته الولايات المتحدة بمشاركة بريطانية، كما نظام الاحتلال الذي أعقب إسقاط الدولة العراقية وحلّ الجيش العراقي، وأدّى إلى تدمير البنية الاجتماعية والتحتية للبلاد بالكامل، وتسليم مواردها لمجموعة من اللصوص. وقد استغلّت المخابرات الأميركية أجواء الفوضى وعدم الاستقرار وقتها لإطلاق حرب أهلية بين العراقيين، على أسس طائفية وعرقية - بمشاركة سعودية بارزة -، ومكّنت «البارزانيين» من تأسيس شبه دولة عرقية لقيطة داخل النظام العراقي المفصّل وفق دستور صاغه بول بريمر، المندوب السامي للإمبراطورية في بغداد، كما أسهمت في خلْق ظاهرة «داعش» الأسوأ والأكثر دموية في تاريخ المنطقة منذ غزوات المغول. وقد لعبت بريطانيا دوراً عسكرياً مهمّاً في العدوان، وأوكلت لقواتها مَهمّة احتلال البصرة وجوارها – جنوب العراق –، ومن ثمّ إدارة تلك المناطق، وكان لمشاركتها تأثير بارز من الناحية السياسية في حشد الدعم أوروبياً وعربياً ودولياً للعدوان الأميركي، وبناء صورة سلبية ملفّقة عن النظام العراقي بوصْفه تهديداً للغرب وللسلام العالمي.
أدّت سياسات بلير اليمينيّة المتطرّفة إلى تآكُل ثقة البريطانيين بالعملية السياسية

وقد كان بلير حاسماً في إشراك بريطانيا في التهيئة للعدوان وتنفيذه، ولاحقاً في احتلال الأراضي العراقية، على رغم الغضب الشعبي الواسع والتظاهرات المليونية للبريطانيين الرافضين للحرب، متجاهِلاً الجهود الدبلوماسية، ومتعامِلاً مع القانون الدولي بلا مبالاة فاجرة. وكشف تقرير حكومي بريطاني للتحقيق في حرب العراق، صدر في عام 2016 (اشتُهر باسم تقرير شيلكوت)، عن مدى تلاعب بلير شخصياً بالأدلّة - أو حتى تلفيقها -، وتشويه الوقائع في محاولة يائسة لتبرير الحرب، ودعْم رفيقه الإيديولوجي، جورج دبليو بوش. وحتى بعد صدور نتائج التقرير، فإن بلير لم يعرب قطّ عن أسفه لإهدار أرواح ملايين الضحايا، بل وتتوفّر أدلة متواترة على أنه كان يتآمر لتوسيع نطاق الصراع العسكري ليشمل إيران، لو كان ذلك ممكناً من الناحية السياسية. وهو يكسب رزقه الآن من تقديم استشارات – بملايين الجنيهات – لعدد من الحكّام الفاسدين في العالم، ولا سيّما السلالات الحاكمة في أبو ظبي والرياض. ويصف مؤرّخون سياسة بلير الخارجية، طوال عقد قضاه في السلطة، بالإذعان التامّ لرغبات السيّد الأميركي، وقد أخذت تلك السياسة الحكومة البريطانية إلى فرض قيود على الحرّيات المدنية، لمنع أيّ معارضة للحروب الإمبريالية، ودفعت بشكل مؤسِّس في اتجاه الإسلاموفوبيا (كراهية الإسلام)، فيما نفّذت الأجهزة البريطانية في العراق أعمال نهب وقتل واغتصاب وتعذيب يندى لها جبين الإنسانية.
وفي الحقيقة، فإن العدوان على العراق كان جزءاً من صورة أكبر لإرث بلير السياسي، كمجرم حرب دولي في لَبوس رجل الدولة. وفي خطابه الشهير في شيكاغو في عام 1999، شدّد بلير على التزامه بمبدأ «التدخل الإنساني»، وأن الغرب وحده هو الذي يستطيع إنقاذ المجتمعات «المتخلّفة» من ­نفسها، ساعياً من دون كلل إلى إضفاء الشرعية على التدخّل العسكري الأميركي في بلدان أخرى، بمبرّرات لا سبيل إلى التحقّق منها، وعلى نحو استباقي. وبعد الهجمات المشبوهة التي وقعت في 11 أيلول 2001 ضدّ أهداف أميركية، تُرجم ذلك إلى التزام عملي بما سُمي بـ«الحرب على الإرهاب»، ومشاركة فاعلة في غزو أفغانستان وما تلاها من احتلال استمرّ لعقدَين وأدى إلى خسائر إنسانية فادحة وتدمير ممنهج للبلاد التي لن تتعافى في أيّ وقت قريب.
بريطانياً، أدّت سياسات بلير اليمينيّة المتطرّفة إلى تآكُل ثقة البريطانيين بالعملية السياسية، وكشفت مجدّداً عن خواء الديموقراطية المزعومة في الغرب، وذلك بعدما توحّد سياسيّو «حزب العمال» - المفترض أنه يمثّل اليسار ومصالح الطبقات العاملة - مع نظرائهم في حزب المحافظين المعارِض حينها، وراء الحروب الإمبريالية، وضدّ رغبات الأغلبية الشعبية من البريطانيين. وبينما تَسلّم بلير قيادة «العمال» في عام 1994، مع تأييد جارف في استطلاعات الرأي لمواجهة السياسات النيوليبرالية المؤذية التي فرضتها حكومات المحافظين اليمينيّة منذ نهاية السبعينيات، فإن سلوكه في المسائل الداخلية، كما في السياسة الخارجية، دمّر ثقة الطبقة العاملة في حزبها، وتسبّب بفشل متكرّر لممثّلي الحزب في العودة إلى السلطة، منذ سقوط آخر حكومة «عمّالية» في عام 2010، وهو أمر يبدو أنه سيستمرّ في العقد الحالي، بالنظر إلى سيطرة أتباع بلير على المناصب القيادية في هيكل «العمال» وكتلته البرلمانية.

كشف تقرير حكومي بريطاني للتحقيق في حرب العراق عن مدى تلاعب بلير شخصياً بالأدلّة


ويَذكر البريطانيون لبلير أنه قاد حملته الانتخابية بجعجعة حول «التعليم والتعليم والتعليم»، ثمّ ما لبث أن أعلن عن إلغاء التعليم الجامعي المجاني، وفرْض الرسوم الدراسية على التلاميذ البريطانيين خلال السنة الأولى له في «10 داونينغ ستريت» (مقرّ رئاسة الوزراء في وسط لندن). وقد تمسّك، أثناء ولايته، بتنفيذ حزمة من الإجراءات المالية النيوليبرالية بشأن الإنفاق الحكومي ومُلكيّة القطاع العام، على نحو لم تجرؤ عليه حتى حكومة مارغريت تاتشر – عرّابة النيوليبرالية -، فبقيت الإنتاجية منخفضة - أقلّه مقارنة بدول الاتحاد الأوروبي -، واستمرّت عمليات الخصخصة، وتمّ تحرير القطاع المالي بشكل خطير فتح الباب على المزيد من تبييض الأموال، وكُبّلت النقابات العمّالية بقوانين صارمة معادية لمصالح العمّال، فيما اتّسع نطاق الفقر وجوع الأطفال، وتَكرّس التفاوت الاجتماعي بين الطبقات. ولا عجب في أن تاتشر قالت ذات مرّة إنها تَعتبر «حزب العمال» الجديد – أي بقيادة بلير - أعظم إنجاز شخصيّ لها.
ولذلك، فإن تكريم بلير من قِبَل ملكة بريطانيا يأتي في سياق طبيعي، كمكافأة على ولائه الوثيق وخدمته للدولة البريطانية العميقة ومصالح نخبتها الحاكمة، المنخرطة إلى أُذُنيها في دعم الإمبريالية الأميركية. لكنه أيضاً، صفعة احتقار للشعب البريطاني وأُسر جنوده الذين أرسلهم بلير إلى حتفهم في حروب عدوانية، وإهانة لكلّ شعوب الجنوب، ولا سيما تلك التي دفعت أثماناً باهظة من أرواح أبنائها على يد الجنود البريطانيين في العراق وأفغانستان وكوسوفو وسيراليون. إليزابيث الثانية: الدّماء تقطر من يديك، وفرسانك قتَلة ومجرمو حرب.