منذ تفجيرَي السفارة الإسرائيلية (1992) والمركز الثقافي اليهودي «آميا» (1994)، في العاصمة الأرجنتينية بوينس آيرس، بدأ التحريض الإسرائيلي ضد الجالية اللبنانية المقيمة في المنطقة الحدودية بين كل من البرازيل والأرجنتين وباراغواي. وانتقل هذا التحريض إلى الولايات المتحدة، مدفوعاً بتركيز إعلامي وبحثي وسياسي من قِبل أذرع اللوبي الصهيوني، وشهد زخماً كبيراً بعد أحداث 11 أيلول 2001، خصوصاً بين عامَي 2005 و2018.من الإعلام إلى مراكز البحث، وصولاً إلى جلسات الاستماع في الكونغرس الأميركي بغرفتَيه، ركّزت نخبة سياسية أميركية في واشنطن تحريضها على دور مزعوم لحزب الله في هذه المنطقة، تارة لتحقيق أهداف مرتبطة بما تسمّى «الحرب على الإرهاب»، أو لتشويه صورة الحزب والتضييق عليه وعلى قاعدته المؤيّدة ضمن الجالية التي تسكن في المنطقة. وساهمت جلسات الاستماع التي تناولت هذا الدور، إلى حد كبير، في إعطاء زخم لمشاريع قوانين لمحاصرة حزب الله أقرّ الكونغرس بعضها، وصولاً إلى إقرار إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تصنيفه كمنظمة إجرامية عابرة للحدود نهاية عام 2018.

«أمْنَنَة» المنطقة الحدودية
استقرّ لبنانيون، منذ أوائل خمسينيات القرن الماضي، في ما يُسمّى «الحدود الثلاثية»، حيث تلتقي حدود كل من البرازيل وباراغواي والأرجنتين. وبحلول الثمانينيات ترأس بعض أفرادها جمعيات أعمال وشاركوا في الانتقال من الحكم العسكري في المدينتين الحدوديتين الرئيسيتين: فوز دو إيغواسو (البرازيل) وسيوداد بريزيدنت ستروسنر (باراغواي) التي غُيرت تسميتها إلىCiudad del Este (مدينة الشرق) بعد عام 1989.
يلفت الباحث اللبناني الأميركي جون كرم إلى أن الشبكات الاقتصادية والسياسية للجالية اللبنانية ساهمت في جذب باراغواي إلى المدار الواسع للبرازيل، وكان للتجار اللبنانيين دور في ربط التجارة في باراغواي بالقاعدة الاستهلاكية والصناعية المتنامية في البرازيل، بعيداً عن النفوذ التاريخي للأرجنتين في باراغواي. وبذلك، ساهمت هذه الجالية إلى حد ما في إعادة رسم النظام الإقليمي في أميركا الجنوبية.


من هنا، باتت الجالية اللبنانية في المنطقة الحدودية الثلاثية عُرضة للتحريض والشيطنة في بعض وسائل الإعلام اللاتينية والأميركية. ومنذ التسعينيات، يشكّك باحثون ومحلّلون، مقيمون بمعظمهم في الأرجنتين والولايات المتحدة، في تعاملات اللبنانيين التجارية وولائهم السياسي. وبرز ذلك خصوصاً بعد تفجيرَي 1992 و1994 في بوينس آيرس، وبدأ الترويج للجالية كخطر على المصالح الأميركية والإسرائيلية في أميركا الجنوبية، وطاول اللبنانيين الساكنين في المنطقة الحدودية الثلاثية، والمنطقة بشكل عام، ما يمكن تسميته، وفق معيار أكاديمي حديث، بـ «الأمْنَنَة»، أي أنّ المنطقة وسكّانها يشكّلون خطراً أمنياً محدِقاً، وعليه بُنِيَت سرديات لإقناع من أرادت واشنطن وتل أبيب إقناعهم بجواز اتخاذ إجراءات بحق المنطقة الحدودية والجالية اللبنانية فيها، خصوصاً بعدما أصبحت الجرائم المنظّمة العابرة للحدود الوطنية أكثر تعقيداً في المنطقة، شأنها شأن سائر المناطق الحدودية الأخرى في أميركا اللاتينية.
بحسب الباحثة في قسم العلوم السياسية في جامعة ساو باولو البرازيلية، إيزابيل كريستين سوما دي كاسترو، يتّضح أنّ مستويات التوتّر بين واشنطن وتنظيمات مثل حماس وحزب الله، فضلاً عن طهران، هي النقطة المحورية للاتهامات المتعلّقة بالممارسات الإرهابية المزعومة في منطقة الحدود الثلاثية التي لوحظت في التقارير التقييمية الصادرة عن الخارجية الأميركية، بما ينافي حقيقة ما يحدث على الأرض.

التحريض منذ 11 أيلول
منذ تفجيرَي بيونس آيرس في عامَي 1992 و1994، دأب الإعلام الإسرائيلي والأميركي على التركيز على هذه المنطقة الحدودية بوصفها منطقة خطرة تؤوي عناصر من حزب الله على صِلة بالتفجيرات. وعمدت المؤسسات التي يحرّكها اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة إلى تركيز تحريضها على الجالية اللبنانية بشكل متصاعد بعد هجمات 11 أيلول 2001. وتزامن هذا التحريض مع تصريحات ومواقف لمسؤولين في إدارة بوش الابن تعبّر عن توجّه لدى تيار المحافظين الجُدد لتوسيع «الحرب العالمية على الإرهاب» كي تشمل حزب الله وحركات المقاومة التي تدعمها إيران. ونشرت صحف ومراكز بحثية على صلة باللوبي تقارير زعمت أنّ اللبنانيين في المنطقة الحدودية يؤمّنون مصادر تمويل لحزب الله ويُؤوون عناصر من الحزب يشكّلون تهديداً للمصالح والأراضي الأميركية. وأشهرها ما نشره في مجلة «ذا نيو يوركر» الصحافي الأميركي - الإسرائيلي جيفري غولدبيرغ، عام 2002، ضمن سلسلة تقارير عن حزب الله، بعد قيامه بجولتين في لبنان والمنطقة الحدودية الثلاثية.
مضمون ما نشره غولدبيرغ في 28 تشرين الأول 2002 بعنوان «داخل حزب الله: الحزب يحضّر لعملياته في أميركا اللاتينية والولايات المتحدة»، يدفع الى الاستنتاج بأنّ الهدف كان تحضير الرأي العام الأميركي لمرحلة يجري فيها تقبّل فكرة شنّ عمليات ضد الحزب وضرب قاعدته الشعبية لخدمة أهداف «الحرب العالمية على الإرهاب». وقد شكّل هذا التقرير مادة استُشهِد بها في عشرات المقالات الصحافية والبحثية وفي جلسات الاستماع في الكونغرس الأميركي. وتزامن نشر هذه التقارير مع إصدار «قسم البحوث الفيدرالية» في مكتبة الكونغرس، بالتعاون مع مكتب مدير وكالة الاستخبارات المركزية، بحثاً من 87 صفحة حول نشاط الجريمة المنظّمة والإرهاب في منطقة الحدود الثلاثية في أميركا اللاتينية، وكان لحزب الله نصيب من التحريض بادّعاء وجود دور كبير له في الشقّين «الإرهابي» و«الإجرامي» انطلاقاً من المنطقة. وسيكون هذا البحث مرجعاً لعشرات البحوث والكتب التي صدرت لاحقاً واعتمدت على ما ورد فيه على أنه من المسلّمات، رغم نقاط الضعف الواضحة في كثير من الادّعاءات التي تضمّنها.
ومن المصادر التي استند إليها بحث مكتبة الكونغرس (وما سيستند إليه كثيرون لاحقاً) ما نشرته صحيفة محلية في الباراغواي اسمها ABC Color، امتلكها الملياردير آلدو زوكوليللو الذي كان يُعرَف في الوسط الإعلامي الأميركي اللاتيني بعدائه للأنظمة اليسارية وحركات التحرّر. وهو، كما تُظهِر وثائق ويكيليكس، كان على تواصل وتنسيق دائميْن - إلى جانب وسائل إعلام أخرى منها صحيفة «آلتيما هورا» - مع الدبلوماسيين الأميركيين في عاصمة باراغواي أسانسيون. سياسات الرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز وسعيه إلى تعزيز التنسيق والوحدة بين دول أميركا الجنوبية في مواجهة الأميركيين، كانت محور استهداف وتحريض عبر ABC Color التي صاغ محرّروها وكتّابها عشرات التقارير التي اتهمت حزب الله بممارسة نشاطات الجريمة المنظّمة في المنطقة الحدودية وغسيل الأموال بتسهيل من النظام في فنزويلا. وبين عامَي 2011 و2018، تحوّلت تقارير الصحيفة إلى مصدر أساسي للباحثين الذين مثلوا أمام لجان الاستماع في الكونغرس للتحريض على دور مزعوم لحزب الله في المنطقة. وفي الوقت نفسه، كانت الصحيفة تعود لتستشهد بهؤلاء الباحثين، وفق أسلوب «الباب الدوّار». وإلى صحيفة ABC Color، كان هناك أيضاً عدد من وسائل الإعلام والصحف الأميركية اللاتينية التي نشرت مزاعم حول تورّط حزب الله في نشاطات «إرهابية» وفي الجريمة المنظّمة في المنطقة الحدودية، وتحوّلت إلى مرجع لكثير من التقارير الصحافية الأميركية ولباحثين أميركيين ظهروا على قنوات التلفزة وفي جلسات الاستماع في الكونغرس. (أنقر هنا للاطلاع على جدول وسائل الإعلام الأميركية اللاتينية)

تكريس الاتهامات داخل الكونغرس
اعتمد تيار التحريض على «دور» حزب الله في المنطقة الحدودية استراتيجية متعددة الأوجه للوصول إلى أمر واقع تصبح فيه عملية نفي السردية أمراً غير وارد، من خلال اتباع تكتيكات الضخ المركّز، إما في جلسات عُقدت خصيصاً للتحريض على الحزب في تلك المنطقة، أو مُرِّرَت في جلسات عامة تناولت الأوضاع في أميركا اللاتينية وبعض أنظمة الحكم فيها ذات التوجّهات اليسارية. ومنذ ما بعد تفجيرَي بيونس أيرس، انحصر التحريض على مستوى الإعلام الإسرائيلي وبعض الأميركي، وبشكل خجول في الكونغرس، وبوتيرة محدودة، ربطاً بالمسار القضائي للتحقيقات والمحاكمات في الأرجنتين. لكن يمكن تقسيم مراحل التحريض في جلسات الاستماع في مجلسَي الكونغرس إلى مرحلتَين أساسيَّتَين:
1) مرحلة ما بعد هجمات أيلول 2001، لإعطاء زخم للتخويف من التنظيمات الإسلامية عموماً والترويج لخطط الانقضاض على إيران وحلفائها في حركات المقاومة.
2) مرحلة ما بعد دخول حزب الله إلى سوريا إثر اندلاع الأزمة فيها عام 2011.
كان اتهام حزب الله بممارسة نشاطات إجرامية وبـ«الإرهاب»، انطلاقاً من المنطقة الحدودية الثلاثية داخل الكونغرس، وبالتحديد في جلسات الاستماع، موجوداً قبل عام 2005، وإن بنسبة قليلة إلى حدّ ما. لكن نمط الضخّ والتحريض ارتفع بشكل ملحوظ ابتداءً من عام 2005، واستمرّ تصاعدياً حتى نهاية 2018، عندما وقّع ترامب قرار تصنيف حزب الله على قائمة الجماعات الإجرامية المنظّمة العابرة للحدود. (أنقر هنا للاطلاع على جدول جلسات الاستماع)

اتّسمت حقبة 2005 - 2012 باهتمام مبالغ فيه من قِبل نوّاب جمهوريين، بشكل أساسي، للحصول على تصريحات من المسؤولين أو «الخبراء» الذين مَثلوا أمام اللجان، تؤكّد أو تدعم التوجّه بوصم حزب الله بالجريمة المنظّمة، إلى جانب «الإرهاب»، وفي كثير من الأحيان بادّعاء انطلاق النشاط الإجرامي المزعوم من المنطقة الحدودية. بدءاً من عام 2013 انتقل عقد جلسات الاستماع في الكونغرس إلى مرحلة جديدة، وأصبح حضور «باحثين» في مراكز بحثية تابعة للوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة أمراً روتينياً. وشهد عام 2013 عقد سبع جلسات استماع، خمس منها في مجلس النواب، أغلبها كان تمهيداً لإقرار «قانون منع التمويل الدولي لحزب الله لعام 2014» (HIFPA). وتركّز فيها التحريض على دور الحزب في سوريا، لكنّ مضمون التحريض في بعض تلك الجلسات أتى على ذكر دوره المزعوم في أميركا اللاتينية والمنطقة الحدودية الثلاثية.
نمط الضخّ والتحريض ضد الحزب ارتفع بشكل ملحوظ ابتداءً من 2005 واستمرّ تصاعديًا حتى نهاية 2018


عام 2015 عاد التركيز على هذه المنطقة في جلسات الاستماع في الكونغرس مع التوصّل إلى الاتفاق النووي مع إيران وبروز حاجة اللوبي الصهيوني إلى التحذير من تحرير أرصدة إيرانية بعد رفع العقوبات، تستفيد منها حركات المقاومة وعلى رأسها حزب الله. وخُصِّص بعض هذه الجلسات للتحريض على أنظمة اليسار كفنزويلا وحكومة دي كيرشنر في الأرجنتين. عام 2017 شهد إسرافاً في الحديث عن منطقة الحدود وحزب الله والجالية الشيعية التي تسكن المنطقة. وكان للباحث في «مؤسسة الدفاع عن الديمقراطيات» إيمانويل أوتولينغي نصيب الأسد من التحريض الذي انتقل إلى تفاصيل الأمور، مستشهداً بحسابات «فيسبوك» تارة، ومصادر «مطّلعة» مبهَمة ادّعى أنها «رسمية» في البرازيل وباراغواي. وفي عام 2018، تحوّل مضمون أغلب الجلسات نحو التركيز على تصنيف حزب الله كمنظّمة إجرامية عابرة للحدود، ولجأ الفريق التحريضي نفسه إلى ذكر أهمية الخطوة في إطار محاصرة الحزب وإجبار دول كالبرازيل وباراغواي على السير في مشروع إدراج حزب الله كمنظّمة إرهابية.

ثغرات في الخطر المزعوم
يتّضح من خلال استعراض المضامين في جلسات الاستماع أنّ التحريض حول دور ووجود عملياتي لحزب الله في المنطقة الحدودية كان له أكثر من هدف. لكنّ الأخطر كان الإصرار على تركيز الضخّ تصاعدياً بما يخدم تحقيق هدف «الأمننة» والشيطنة للمنطقة ككل، وللجالية اللبنانية التي تسكن فيها. المتمعّن في ما تفوّه به الذين دُعوا إلى الجلسات للإدلاء بشهاداتهم وآرائهم ومعلوماتهم حول «نشاط» حزب الله يكتشف ثغرات في السرديات والادعاءات، أهمّها افتقادها للأدلة التي تربط اللبنانيين المتّهمين بالإتجار بالمخدرات وممارسة الجريمة المنظّمة بالحزب، بما يؤكّد أنّ الهدف غير المعلن لتكرار سرد قصص تورّط بعض اللبنانيين في الجريمة المنظّمة هو وصم كل لبناني يسكن في المنطقة بأنّه ناشط أو منتمٍ إلى حزب الله، وبالتالي كل نشاط خارج عن القانون يقف الحزب وراءه.

ساهمت الجالية اللبنانية في المثلث الحدودي في جذب باراغواي إلى البرازيل بعيداً عن النفوذ التاريخي للأرجنتين


كما يتّضح أنّ عدداً من المشاركين في جلسات الاستماع تعمّدوا التضليل مستعملين حاجز اللغة عندما استشهدوا بما نشرته وسائل إعلام في البرازيل والأرجنتين وباراغواي، قبل أن يتبيّن أن التقارير المستشهَد بها لم تذكر حزب الله لا من قريب ولا من بعيد لدى تناولها قصص جرائم متعلّقة بتهريب المخدرات وغسيل الأموال. ومن الواضح أنّ هناك تركيزاً في شهادات بعض المشاركين في جلسات الاستماع على الاستشهاد بتقارير وسائل إعلام لاتينية يمينية منحازة ضد الحزب والجاليات المسلمة عامة في دول أميركا اللاتينية، الأمر الذي يضع المضمون الذي تنشره حول الحزب موضع الشك. وبرز في الجلسات سعي واضح لكثير من أعضاء اللجان في الكونغرس، خصوصاً الجمهوريين، لخدمة هدف «الأمننة» والشيطنة، والتركيز على «خطر» المنطقة الحدودية، لخدمة أهداف سياسية تتعلّق بالتصويب على إدارة أوباما. فبالتوازي مع المفاوضات النووية، ولاحقاً التوصّل للاتفاق مع إيران، كان هناك توظيف سياسي واضح من قِبَل أعضاء لجان الكونغرس، ومشاركة فاعلة لأذرع اللوبي الصهيوني الليكودي في جلسات الاستماع، والتخويف من التوصّل للاتفاق النووي وللتحريض على الآثار المترتّبة على تطبيق الاتفاق بعد عام 2015 وإزالة العقوبات.
وختاماً، فإن أكثر ما يلفت الانتباه في جلسات الاستماع التي عُقِدت عام 2018 كان الإعلان الواضح عن الهدف، وهو الضغط لإدراج حزب الله على قوائم منظّمات الجريمة المنظّمة العابرة للحدود، للوصول إلى ما يصعب تحقيقه عبر الضغط لإدراج الحزب على قوائم «الإرهاب»، وهذا ما نجحوا بفعله مع توقيع ترامب على تصنيف حزب الله كمنظّمة إجرامية أواخر عام 2018.