شوقي أبي شقرا* كانت صباح زوين السيدة التي كانت، وأكثر مما هنالك من صورة لها لا تحيد عن البال. هي التي كنا نصادفها في أي ملعب، أي باحة، أي مقهى، وأي بيت، وتطل ضاحكة، أو في يقظة العصفور ليلتقط حبة، ليحمل قشة، ليركض إلى العش. وتطل عابسة، ومعي تفكّر في موضوع لها، في صواب حدث ذات مرة، وفي مقالة تشع ذات لحظة، وفي قصيدة ليست باهتة وليست لها صفة، لتكون في المرصاد وفي نافذة البقاء المديد.

وصباح زوين أيضاً هي الشاعرة، والمكان الذي لطالما دافعت عنه، ولا تهدأ حميّاها أبداً، حتى تمكّنت من القول، ومن بثّ التجديد في ما هو عادي، ومن تربية كلمات تحبسها في الإطار النافذ، والتصحيح، وفي مجال من الصيرورة لطيف جداً، بقدر ما هو ينقلب من القاعدة، ليسبح حراً في مناخ من الرضى والمتانة، وفي غلبة من الحياكة الشديدة اللجام، والمزدحمة بالتأويلات.
وعند صباح زوين ما عندها من التبادل ومن الحوار ومن الترجمات، ومن المختارات، وكذلك، من نقل نصوص وترجمات عدة. وكانت تحرص على العدالة، وعلى أنّ عطاءنا الشعري في لبنان، يجب أن يتصل بسواه، وأن تكون المنافسة على مستوى من الأصالة، ومن الصدق في التقييم، ومن الحق في أنّ ما يعد عندنا، له كل النجاح وكل الفوز بنظرة جديدة إلى إرثنا، إلى حصادنا، وهو الوفر والمشتاق إلى الخارج، وحيث يكون الصدام الفني، والبذخ في صناعة الكلمة القريبة من اي ذوق، وأي مذاق. وهي صباح طويلة القامة في الحضور الثقافي، على مسافة جليلة من النقد والبحث، أسهمت في بلورة الشأن الابتداعي، وفي النص الذي يختال أمامها ويجعلها تقدم على أن تكون في تمام الثواب وفي تمام السلامة، والزينة الفكرية العصماء.
وكانت صباح في مرضاة نحو جهة ما، حين تكون في حاجة إلى نار، فيعرفها الجميع، وفي نوع من التجهّم نحو جهة من التأليف، لا تلم العصمة ولا تزدان بما هو يلائم العصر، ويلائم النقطة، حيث نحن، وحيث وصل الصراع من أجلها وفي صددها.
ولها أن تزدان وأن تعلو إلى الفضاء، بسبب تلك العلاقات في حياتها، بينها وبين الخارج، بينها وبين أشخاص مثقفين في العالم العربي، وفي الأماكن البعيدة، في ذلك الغرب المحتشد والطامح إلى اللقاءات والمسامرات. وإذ صباح تغيب عنا، فإنما لأنّ جسدها لم يرتق إلى شاهق فكرها، إلى ثلّة نضجها. وهو النضج الذي امتلكته على رحابة سنوات من العمر، وزرعته في ظهرانينا، في بصائرنا، وفي حياتنا المترامية خروجاً من الاعتزال ومن الصمود في أحوالنا كما هي، لنصل إلى الأحسن، وإلى أن نقول إننا من حيث الشطارة، نحن شاطرون، ومن حيث الاهتداء إلى الكنوز، نحن لها، لهذه المهمة الطريفة والخالدة.
وتغيب صباح مذ خذلها الجسد الذي تعب، وغاص في مهبّ الضعف، وغرمرم السوء. وبنا من جراء الرحيل القاسي ما يقرب من الابتهال ومن الدعاء، وأن تكون هي في المثالية الأنثوية والأدبية، وأن تنتبه لها أجيالنا، وأن يأخذوا منها، من مؤلفاتها، ما ينسجم وسرائرهم، وأن تكون صباح في ما صنعت وصاغت، تلك المضيئة في الظلام، قنديلاً ومكيالاً. لأنّ العتمة ها هنا، لا نحفل بها، كلما غابت نجمة، أو انطفأ القنديل. بل سوف نكون سعداء لأننا سنحصل سريعاً على المنارة، على نور الحقيقة، لا نور الزيف والخشية من السارق، سارق القيمة الذي يكسر المشكاة.
* شاعر لبناني