لم يعد الطموح الكردستاني إلى دولة مترامية الأطراف في إطار الانفعالات الوجدانية التي يعظم الحنين إليها بين فينة وأخرى، بل بات برنامجاً عملياً يجري السعي في تنفيذه على قدم وساق. حكومة إقليم كردستان تواصل حفر خندق بطول 1400 كيلومتر وعرض ثلاثة أمتار وعمق ثلاثة أمتار أيضاً، من ناحية ربيعة في محافظة نينوى الحدودية مع سوريا، مروراً بمناطق زمار وشيخان وبرطلة وبعشيقة والحمدانية ومخمور وكوير في المحافظة نفسها، وصولاً إلى دبس وطوزخورماتو في محافظة كركوك، وانتهاءً بكفري وقره تبة وجلولاء في محافظة ديالى، أي عند الحدود الإيرانية. اللافت في المشروع الذي يبدو أنه يدخل مراحله الأخيرة جملة معطيات يمكن تلخيصها بما يأتي:
تتابع حكومة الإقليم حفر الخندق دونما مشاورة مع السلطات المركزية في أيٍّ من تفاصيله الثابتة أو الطارئة. تجاهل ليس الأول من نوعه، إذ سبقته العديد من أفعال الاستغفال المماثلة، إلا أن الأخطر هذه المرة أن الجانب الكردي يضم إلى أراضيه معظم المناطق المتنازع عليها، بين بغداد وأربيل، والتي تأتي في مقدمها محافظة كركوك وأنحاء سنجار وزمار والقحطانية ومخمور، فضلاً عن خانقين ومندلي وبدرة وكفري. بموجب الفقرة الثانية من المادة 140 من الدستور العراقي، فإن سيرورة حل الخلاف حول المناطق المشار إليها تبدأ بالتطبيع والإحصاء وتنتهي باستفتاء إرادة المواطنين. وعلى الرغم من أن تلك السيرورة لما تتجاوز عتبتها الأولى، خلافاً لما نص عليه الدستور من ضرورة إنهاء العملية في مدة أقصاها 31 كانون الأول 2007، غير أن التأخير كانت له أسبابه السياسية والأمنية التي لا تجيز لأربيل تجاوز القواعد الدستورية والقفز على إرادة جميع المكونات العراقية غير الكردية.
خبراء أميركيون يشرفون على حفر خندق كردستان

الأكثر بروزاً في البقعات التي يعمل إقليم كردستان على اقتطاعها من العراق، مناطق كركوك الغنية بالنفط في المحافظة المعروفة بالتأميم والواقعة وسط شمال بلاد الرافدين، وهي خمسة حقول نفطية، هي باباكركر (450 بئراً)، وعجيل (91 بئراً)، وخباز (36 بئراً)، وباي حسن (196 بئراً) وجمبور (25 بئراً). تتقاسم حكومتا بغداد وأربيل عمليات الإنتاج في تلك الحقول، على نحو يفترض أن يوفر لشركة تسويق النفط العراقية (سومو) 250 ألف برميل يومياً من النفط الخام المنتج في كردستان، وأن يسمح لها كذلك بتصدير 300 ألف برميل يومياً من إنتاجها، من طريق الخطوط الممدودة ما بين الإقليم وتركيا. هذا الاتفاق سيستمر العمل به خلال العام الحالي، على الرغم من أن الإقليم لم يسلّم العراق، حتى آب 2015، سوى 44% من الكمية المنصوص عليها في الموازنة.
بالنتيجة، يتحكم الطرف الكردي بتوزيع عائدات كركوك في وقت توفّر له السلطات المركزية نفقات مخططة تقارب 17% من قيمة الميزانية، وإذا أضيف إلى ما تقدم أن أربيل توسع سيطرتها على "شركة نفط الشمال" التابعة لبغداد، من خلال برنامج استحواذي مبطن يتضمن تقديم الدعم الفني وبناء خط أنابيب، يصبح السيناريو المرجح شديد الوضوح: خندق كردستان سيعبّد الطريق أمام ضم صناعة النفط في كركوك بنحو كامل للإقليم، حالما يتعرض اتفاق تقاسم العائدات لاهتزازات تطيح أساساته.
الاهتزازات المتوقعة بدأت أماراتها تلوح في الأفق، منذرة بما هو أسوأ خلال المرحلة المقبلة. رئيس لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في برلمان إقليم كردستان عزت إسماعيل، أعلن قبل أيام في حديث لشبكة "بلومبرغ"، أن حكومة الإقليم لن تسلم بغداد الحصة المتفق عليها في الموازنة تحت ذريعة انخفاض أسعار النفط وعجز العراق عن دفع المخصصات المالية لأربيل. وأعلن إسماعيل أن الأخيرة ستواصل تصدير إنتاجها من النفط، بشكل مستقل عن السلطات المركزية. إعلان يمكن البناء عليه لرسم نتيجة منطقية مفادها: إذا كان سقف كردستان النفطي متجاوزاً المواد الدستورية و"التأميم" لم تسلخ بعد، فكيف الحال إذا ما تمكن البارزانيون من تكريس انفصال كركوك عن الأراضي العراقية؟
ثاني أبرز المناطق التي يقتطعها خندق كردستان من العراق هي بلدة سنجار الواقعة في محافظة نينوى، البلدة ذات الغالبية الأيزيدية وضع الحزب الديمقراطي الكردستاني مبكراً لبنات تحويلها لكردستان. توطئة بلغت أوجها في شهر تشرين الأول من العام الماضي عندما أعلن رئيس الإقليم مسعود البرزاني تحرير سنجار من مسلحي "داعش" بمساندة "التحالف" الأميركي. حينها، برز كلام لافت للبرزاني قال فيه إن حكومته ستعمل على تحويل البلدة إلى محافظة، مضيفاً أن "سنجار تحررت بدماء البشمركة وأصبحت جزءاً من كردستان". اليوم، يبدو واضحاً أن تصريح رئيس إقليم كردستان بدأ يسلك سبيله إلى التنفيذ، في ظل مشارفة المدينة الكائنة غربي الموصل على الخروج بالأمر الواقع من خريطة المناطق المتنازع عليها.
الخريطة التي يعمل زعماء أربيل على هندستها راهناً، لا يظهر أن ثمة عقبات ذات صبغة مبدئية يمكن أن تعوقها، منظمة العفو الدولية (أمنستي) أصدرت في العشرين من الشهر الحالي تقريراً اتهمت فيه قوات الإقليم بقيادة حملة منسقة لتشريد المجتمعات العربية في محافظات نينوى وكركوك وديالى. حملة يتضح الآن أنها استهدفت التمهيد لجرف المناطق المطموع بها كردياً. قضاء طوزخورماتو الذي يخترقه خندق كردستان من أقصاه إلى أقصاه، نموذج جلي من مسارح ذلك الاستهداف. في أواسط تشرين الأول الماضي، شهد القضاء المشار إليه أحداثاً ساخنة لا يمكن إغفالها في هذا السياق. قوات البشمركة أطلقت النار على أفراد "الحشد" التركماني بحجة عدم توقفهم عند حاجز أمني وقتلت أربعة منهم. حادثة سرعان ما تطورت إلى أعمال عنف شملت إحراق الأكراد منازل العرب والتركمان وتخريب ممتلكاتهم واستحداث نقاط عند مداخل القضاء، واعتقال مواطنين واحتجاز عشرات الرهائن في مستشفى طوزخورماتو، فضلاً عن محاصرة قوات "الأسايش" (الأمن الداخلي الكردستاني) للمستشفى ومنعها دخول جرحى "الحشد" إليها.
في خلاصة المعطيات، يستبين أن مشروع حفر الخندق حول إقليم كردستان وتعزيزه بحصون تنتصب كل ما تقدم 300 متر وتسويره بأسلاك شائكة وتقويته بمواد متفجرة، يستهدف ترسيم حدود الإقليم المشتهاة لا حماية الأكراد من السيارات المفخخة وفق ما تدعي أربيل. يعزز الاستنتاج المتقدم حديث الزعماء الأكراد المتصاعد عن الانفصال ودخول مطالبهم طوراً ربما كان الأكثر جرأةً منذ سنوات. رئيس حكومة الإقليم نيجرفان البرزاني أبلغ، الثلاثاء الماضي، الاتحاد الأوروبي نية الإقليم إجراء استفتاء شعبي على الاستقلال، واضعاً ذلك في إطار حق شعب كردستان بتقرير مصيره، ومحاولاً التخفيف من وقع بيانه بالقول إن أي قرار يتخذه الشعب سنتفاهم بشأنه مع بغداد عبر الحوار السلمي.
اجتماع نيجرفان ببعثة الاتحاد الأوروبي في العراق وممثلي دول الاتحاد في الإقليم، سبقته قبل أيام تصريحات لرئيس الإقليم مسعود البرزاني، الذي سجل موقفاً متجرداً من أية أستار احتشام، حينما قال لصحيفة "ذا غارديان" البريطانية إن "العراق مقسم والثقافة الموجودة ليست ثقافة تعايش"، مضيفاً أنه "إذا لم نتمكن من العيش معاً فعلينا أن نعيش مع بدائل أخرى". ورأى البرزاني أن "اتفاقية سايكس بيكو فشلت والشرق الأوسط بات بحاجة إلى اتفاق دولي جديد، يمهد الطريق لإقامة دولة كردية". تصريح يأتي بعد سلسلة مواقف صوّبت نحو الفكرة نفسها، في وقت كانت فيه وجوه كردستان تسعى إلى إقناع العالم بالمشروع الانفصالي. حتى أن البعض لا يتردد في القول إن وزير خارجية العراق الأسبق هوشيار زيباري، على سبيل الذكر لا الحصر، كان رأس دبلوماسية كردستانية أكثر منها عراقية وطنية.
تبقى الإشارة إلى أن حفر خندق كردستان جارٍ بإشراف خبراء من دول "التحالف" الأميركي موزعين على النحو الآتي: 20 خبيراً جغرافياً من الولايات المتحدة وفرنسا، 25 خبيراً فنياً من الولايات المتحدة أيضاً، 40 مهندساً من أميركا وبريطانيا وفرنسا، و60 مهندساً خبيراً في المتفجرات من أميركا وألمانيا. معطيات تنذر بأن "المجتمع الدولي" الذي كان متحفظاً في ما مضى عن إبداء دعم علني ومطلق لاستقلال الإقليم، ربما بدأ يعدل عن استراتيجيته هذه، مائلاً إلى الدفع باتجاه الانفصال على نحو أكثر وقاحة وواضعاً بغداد أمام الأمر الواقع.




طموحات استقلالية

منذ ما قبل الحرب العالمية الثانية كان أكراد العراق يتطلعون إلى ما يعتبرونها أراضيهم المنتزعة منهم، هولير والسليمانية وكركوك ودهوك، وجميع أقضية نينوى باستثناء الموصل وبعاج وحضر، وأقضية خانقين ومندلي وكفري في ديالى، ومركز قضاء بدرة في واسط، كلها شكلت عنواناً للحلم الذي منّى الأكراد أنفسهم به من عام 1918. حينها، بدأ زعيمهم الأول المعروف بمحمود الحفيد مساعي سياسية وعسكرية لإقامة حكومة كردستان الجنوبية، وقد طلب من البريطانيين الذي كانوا يحتلون بلاد الرافدين في تلك الحقبة مساندته في ذلك. طلب لم يتردد الإنكليز في إجابته، موطئين الطريق لقيام الحكومة المذكورة، إلا أن الأخيرة سرعان ما زالت عام 1922.
سنوات مرت عقب حركة الحفيد ولم يخمد حلم الأكراد بالاستقلال، سنة 1945 سجلت هي الأخرى بوادر ديناميات انفصالية، إنما أشد قوة، بزعامة مصطفى البرزاني. مؤسس الحزب الديمقراطي الكردستاني، أطلق يومئذ الدورة الأكثر راديكالية من المطالب الكردية انطلاقاً من مدينة مهاباد في إيران الشاهنشاهية. دورة تخللتها العديد من محطات الصراع مع الحكومة المركزية إلى أن استقر الأمر على نوع من المهادنة سنة 1991. اليوم، يعود أصحاب طموحات الاستقلال ليزخموا دعواتهم من جديد، مستغلين الظرف الإقليمي والدولي الذي بعث الهويات الجزئية على حساب القوميات الجامعة.