في السنتين الأخيرتين، انقلبت حياة اللبنانيين رأساً على عقب. إلى وباء كوفيد 19 الذي ضرب العالم، عانى لبنان واحدة من أقسى الأزمات الاقتصادية التي عرفها العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، أدّت إلى إفقار غالبية سكانه وجعلتهم أمام تحدّي تأمين الغذاء والدواء، في ظل انسداد سياسي واقتصادي بلغ ذروته مع الصدمة التي خلّفها انفجار مرفأ بيروت في 4 آب 2020. كل ذلك خلّف آثاراً وخيمة على الصحة النفسية للبنانيين من كل الأعمار والخلفيات، ليضعهم أمام خطر زيادة مشاكل الصحة العقلية والنفسية ويرفع من خطر الانتحار. وبحسب ما تشير الأرقام، فإن شخصاً واحداً على الأقل يُقدم على الانتحار في لبنان كل 48 ساعة، فيما تشهد حالات الانتحار منذ عام 2016 ازدياداً مطرداً بلغت نسبته 35.5 في المئة، ووصل عدد الوفيات التي سجّلتها قوى الأمن الداخلي انتحاراً إلى 1366 حالة خلال 11 عاماً، وفي 66 في المئة من الحالات كان المنتحرون ذكوراً، علماً بأن هذه الحالات لا تشمل كل عمليات الانتحار التي لا تسجّل في هذه الخانة لدواع اجتماعية.هذه الأرقام أُعلنت أمس في مؤتمر «كسر الصمت حول الانتحار» الذي نظّمه البرنامج الوطني للصحة النفسية ومنظمة الصحة العالمية وجمعية «امبرايس» بدعم من الوكالة الفرنسية للتنمية والمعهد العالي للأعمال.
بحسب المؤتمرين، فإن 63٪ من طالبي الدعم النفسي الذين يسعون للحصول على خدمات الصحة العقلية تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً. وما يزيد القلق، إلى جانب تفاقم الواقع المتردي يومياً، هو هجرة كثير من الأطباء والمعالجين النفسيين، وارتفاع كلفة الفاتورة الاستشفائية لدى الأطباء والمعالجين النفسيين، وارتفاع أسعار أدوية الأعصاب بعد إلغاء الدعم عن غالبيتها، وهي مما يحتاج المرضى إلى المواظبة عليه وإلا تعرّضوا لانتكاسات تزيد تردّي أحوالهم النفسية. وهذا ما تسعى وزارة الصحة إلى العمل على توفيره في مراكز الرعاية الأولية، كما يؤكد رئيس البرنامج الوطني للصحة النفسية في وزارة الصحة ربيع شماعي، «لأنه يقع في صلب الاستراتيجية الوطنية للوقاية من الانتحار». وأوضح أن «الأعطاب السياسية والاقتصادية والبطالة والعنف تشكّل بيئة خصبة لظهور الاضطرابات النفسية التي تتسبّب في 90 في المئة من حالات الانتحار. لذلك يجب أن تنصبّ جهود الوقاية من الانتحار على رصد الاضطرابات النفسية ومعالجتها». ولفت الى انه «في الوقت الحالي فإن الوقاية المتوفرة هي في تكثيف الخدمات الصحية النفسية لتكون قريبة من المواطنين، والاستجابة السريعة من خلال الخط الساخن لجمعية امبرايس (1564) الذي بدأ عمله منذ 2017 وشهد زيادة هائلة في الطلب على خدماته على مدار العامين الماضيين».
63٪ من طالبي الدعم النفسي تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عاماً


الاختصاصية النفسية مؤسِّسة جمعية «امبرايس»، ميا عطوي أكّدت أن التدخل عبر «خط الحياة» صنع «فارقاً حقيقياً، وخصوصاً أن كثيرين ممن يتعرّضون لضغوط اجتماعية وحياتية أو صدمات نفسية يعانون بصمت ولا يجدون الدعم من المحيط». ولفتت الى أن أكثر الاتصالات أخيراً «تحدثت عن تدهور الحالة الاقتصادية والشكوى من الإفلاس واللاأمان الاجتماعي والغذائي والدواء، ونسبة لا بأس بها كانت لنساء يعانين من التعنيف المنزلي، ما يدفعهنّ الى التفكير بوضع حد لحياتهن». لذلك، فإن «خط الحياة»، وفق عطوي، «يمثّل شريان أمل للمتصلين ويخفف من الشعور بالوحدة النفسية». وأوضحت أن «كثراً من المتصلين يكونون في أول المكالمة التي تمتد أحياناً إلى 45 دقيقة فاقدين لأي أمل، لكنهم ينهون الحديث مرتاحين لشعورهم بأن هناك من يفهمهم من دون خوف من الوصم. وهذا يثبت أهمية هذا التدخل. أما من هم بحاجة إلى علاج نفسي وتدخل طبي او اجتماعي فيتم تحويلهم إلى المراكز المختصة في وزارة الصحة».
الكلمات في المؤتمر بمجملها شددت على أن الموت انتحاراً هو موت مجاني، يمكن تجنبه وتقليص أعداد المنتحرين. ودعت إلى نشر التوعية في المدارس والمستشفيات حول التعامل مع الانتحار، داعية الوسائل الإعلامية إلى الإبلاغ المسؤول عن حالات الانتحار وعدم «رمنسة» هذا الفعل (جعل الانتحار أمراً رومانسياً أو بطولياً).