عاد شبح حروب البلقان ليؤرّق البوسنيين من جديد، ويهدّد وحدة أراضي البوسنة والهرسك، بعد مرور أكثر من ربع قرن على اتفاق «دايتون» الذي أنهى الحرب الثالثة (1992 ـــ 1995)، من دون أن يتمكّن من بناء دولة حقيقية يمكن لها أن تستمرّ. فالأزمات المتلاحقة التي سبّبها النظام السياسي المركّب والهجين، الناتج من «دايتون»، بلغت الذروة أخيراً، مع جنوح المكوّن الصِّربي داخل الدولة إلى خطوات انفصالية، وصفها الممثل السّامي للمجتمع الدولي في البوسنة والهرسك، كريستيان شميت، بـ«أخطر تهديد وجودي» على الدولة منذ انتهاء الحرب عام 1995. تلك «الخطوات المتطرّفة» فنّدها زعيم صِرب البوسنة، ميلوراد دوديك، بحديثه عن نيّة للانسحاب من المؤسّسات المركزية والرئيسة للدولة، من الجيش والاستخبارات إلى المحكمة الدستورية، وصولاً إلى إدارة الضرائب وغيرها الكثير، وتعهّده بإنشاء جيش خاص بصِرب البوسنة خلال الأشهر المقبلة، وهو ما عدّه شميت، في تقرير للأمم المتحدة، بـ«مثابة انفصال غير مُعلن». وعلى رغم الوضوح الذي عبّر عنه دوديك حول سعيه إلى تحقيق «استقلال ذاتي كامل» لصِرب البوسنة، إلّا أنه نفى أن تكون لديه نيّه للانفصال، مؤكداً أنه «لا حرب، ولن تكون هناك حرب، ولا احتمال للحرب». لكنّ الممثل السّامي يرى العكس، إذ حذّر شميت من أن «خطر الحرب أكثر جدّية»، مشيراً إلى إمكانية نشوب اشتباك بين وكالات إنفاذ القانون المركزية وشرطة صِرب البوسنة، وهو ما يستدعي، بالنسبة إليه، «إعادة تقييم» حجم القوة العسكرية الدولية التي تمّ نشرها في البلاد، بعد إبرام اتفاق «دايتون» (جدّد مجلس الأمن الدولي مهمّتها لمدّة عام، في بداية تشرين الثاني 2021). ولم تقلّ حدّة موقف الولايات المتحدة، الدولة التي رعت اتفاق «دايتون»، عن تلك التي عبّر عنها الممثل السامي، إذ وصفت المندوبة الأميركية، ليندا توماس ـــ غرينفيلد، خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، ما يقوم به دوديك بـ«التهديد الخطير». ولتأكيد التزامها بـ«سيادة البوسنة والهرسك»، أوفدت الإدارة الأميركية إليها مستشار وزارة الخارجية، ديريك شوليت، الذي التقى أعضاء المجلس الرئاسي. كذلك، أوفدت مسؤول ملفّ غرب البلقان في وزارة الخارجية، غابريل إسكوبار، الذي حذّر «جمهورية الصرب» من أن انسحابها من المؤسّسات المركزية «سيلحق الضرر» بها، مؤكداً أن مصلحة الجميع «تكمن في العودة إلى الطاولة»، أي في الحوار.
للبوسنة والهرسك 3 رؤساء و13 حكومة وبرلماناً ومئات الوزراء والنواب


الحرب... ما قبلها وما بعدها
يعيش في البوسنة والهرسك، التي تحدّها صِربيا من الشرق وكرواتيا من الشمال والغرب، ثلاثة مكوّنات عرقية رئيسة، هي (بالترتيب نسبةً إلى عدد السكان): البوشناق (أغلبهم مسلمون)، والصِّرب (تتبع غالبيتهم الكنيسة الأورثوذكسية)، والكروات (تتبع غالبيتهم الكنيسة الكاثوليكية). وهي كانت تشكّل إحدى جمهوريات الاتحاد اليوغسلافي الذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية. ومع بدء تفكّك الأخير، في الفترة التي تلت انهيار الاتحاد السوفياتي، صوّتت غالبية البوسنيين، في استفتاء شعبي أُجري عام 1992، لمصلحة الاستقلال عن الاتحاد اليوغسلافي. فاجأت النتيجة يومها صِرب البوسنة بقيادة رادوفان كارادجيتش، ومِن خَلفهم صربيا، التي كانت قد هدّدت بضمّ الأراضي البوسنية إليها، بالقوّة، في حال اتخاذ البوسنيين قرار الانفصال. وهو ما حصل بالفعل؛ ففي نيسان من ذلك العام، وبعد أيام على إعلان البوسنة والهرسك استقلالها، شنّ قائد صِرْب البوسنة هجوماً عسكرياً باتجاه العاصمة سراييفو وأطبق الحصار عليها، قبل أن يتوسّع نحو مناطق أخرى. وقد أسفرت الحرب التي امتدّت حتى عام 1995، وفق الأمم المتحدة، عن أكثر من 200 ألف قتيل، ونزوح قرابة 2.7 مليون شخص من البوسنيين من منازلهم، وشهدت ارتكاب «كلّ ما يمكن تخيّله من انتهاكات لحقوق الإنسان واعتداءات، من التطهير العرقي والاغتصاب، إلى الإعدام الجماعي والتجويع». ووفق أرقام «البنك الدولي»، انحدر عدد سكّان البوسنة والهرسك من قرابة 4 ملايين ومئتي ألف نسمة قبل اندلاع الحرب، إلى قرابة 3 ملايين وثمانمئة ألف نسمة عند انتهائها، ما يعكس الرقم المرتفع لعدد القتلى ومَن دُفعوا إلى مغادرة البلد. والظاهر، وفق الأرقام الرسمية، أن عملية الهجرة تلك تواصلت حتى بعْد إحلال السلام، إذ يقلّ عدد السكان اليوم عن ثلاثة ملايين وثلاثمئة ألف نسمة، وهو رقم مرشّح للتناقص أكثر فأكثر، نتيجة نسبة النموّ السكّاني السلبية.

«دايتون» يوقف الحرب... ولا يُنهيها
في نهاية عام 1995، وبعد تدخّل الولايات المتحدة التي اكتفت بمراقبة عمليات «التطهير العرقي» طيلة فترة ارتكابها، أُبرم اتفاق «دايتون» (نسبةً إلى مدينة دايتون الأميركية حيث جرت المفاوضات). ثبّت الاتفاق التوازنات العسكرية على الأرض كما كانت لحظة إبرامه، ورسَم دستور البلاد الجديد، الذي حمل في طيّاته بذور الوضع السياسي المتأزّم اليوم، إذ حافظ على وحدة تراب الدولة، إلّا أنه وضع لها نظاماً سياسياً مركّباً ومعقّداً، يقوم على التوافق بين المكوّنات الثلاثة، ويُعطي جميعها القدرة على تعطيل القرارات التي تتعارض مع مصالحها، مقسّماً الدولة إلى كيانَين: الأوّل «فيدرالية البوسنة والهرسك» للبوشناق والكروات، والثاني «جمهورية الصرب» لصِرب البوسنة، فيما أبقى على سراييفو عاصمة للدولة. وفي وقت لاحق، جرى إنشاء مقاطعة برتشكو في الشمال الشرقي للدولة، ومُنحت حكماً ذاتياً. وفيما تُحكَم «الجمهورية» بنظام مركزي، تنقسم «الفيدرالية» إلى 10 كانتونات. وقد فرضت كلّ تلك التقسيمات تشكيل كمٍّ مهول من المؤسّسات الدستورية، ليصبح الوضع على النحو التالي: 3 رؤساء و13 حكومة وبرلماناً ومئات الوزراء والنواب، وفوق كلّ هؤلاء، إن صحّ التعبير، ممثّل سامٍ للمجتمع الدولي لديه صلاحية فرض القرارات والتشريعات وإقالة مسؤولي الدولة.

لموسكو في منطقة البلقان مصالح حيوية إذ تشكّل هذه المنطقة «خاصرةً رخوةً» لأوروبا


نحو تشكيل «عالم صربي»؟
كما للأزمة النّاشبة حالياً سياقاتها الداخلية، فإن لها أبعادها الخارجية. خلال تشرين الأول الفائت، توعّد زعيم صِرب البوسنة بأنه سيُجبر الجيش البوسني (الجيش الرسمي والوحيد للدولة) على سحب قوّاته من «جمهوريتهم»، ملوّحاً بأن لهم «أصدقاء» سيساعدونهم في حال تعرّض أراضيهم لـ«تدخّل عسكري غربي». وعلى رأس هؤلاء «الأصدقاء» تأتي صربيا، الجارة الحدودية للبوسنة والهرسك، ولـ«جمهورية الصرب» فيها، بالتحديد، إذ لا يزال العامل القومي حاضراً بقوّة عند الطرفين، وهو ما عبّر عنه بوضوح، قبل أشهر، وزير الداخلية الصِّربي، ألكسندر فولين، في دعوته إلى «تشكيل عالم صِربي، أي توحيد الصِّرب أينما كانوا». أمّا على الصعيد الدولي، فتَبرز روسيا، التي تقدّم دعماً مباشراً لصِرب البوسنة، ولخطوات دوديك، وفق ما أكده اعتراض المندوب الروسي، فاسيلي نيبينزيا، خلال جلسة لمجلس الأمن الدولي، على تقرير شميت، واعتباره أنه «إذا كان أيّ شخص لا يزال لديه شكّ حول حقيقة أن مكتب الممثل السّامي قد توقّف عن كونه أداة لغرض المصالحة الوطنية، فإن هذه الوثيقة المنشورة (التقرير) تزيل تلك الشكوك».
ولموسكو في منطقة البلقان مصالح حيوية، إذ تشكّل هذه المنطقة «خاصرةً رخوةً» لأوروبا، ومدخلاً من مداخلها بالنسبة إلى روسيا، وهي فضاء يَسهُل على الأخيرة التّحرك فيه ونسْج العلاقات مع كثيرٍ من دوله، كما هو جارٍ مع صربيا، نظراً إلى تركيبة البلقان والعلاقة التاريخية التي تربطها به. وفي هذا الإطار، يشير المحاضر في «جامعة سراييفو الدولية»، أدمير مولاوسمانوفيتش، إلى اعتقاد المفكّر الروسي وأحد منظّري الفكرة «الأوراسية»، ألكسندر دوغين، بأن «المحور الجديد يجب أن يقوم على التكوين الثلاثي بين برلين وموسكو وبكين، بصفتهم حاملي هيكل الإمبراطورية الأوراسية المستقبلية»، وقناعته بأن «الدولة الرئيسة التي تضمن النفوذ الروسي في البلقان هي صربيا». وبالتالي، «يجب أن تصبح صربيا القوّة التي تهيمن على جنوب شرق أوروبا وتؤمّن الممرّات الاقتصادية إلى ألمانيا». وهنا، يشرح مولاوسمانوفيتش، في مقالة كتبها لوكالة «الأناضول» التركية، أن «العالم الصِّربي الذي اقترحه القادة الصِّرب ليس مفهوما ثقافياً أو إنسانياً، بل على العكس من ذلك، فإن الأمر كلّه يتعلّق بإنشاء كيان عسكري وسياسي وأمني عابر للحدود، قادر على المشاركة في إنشاء نظام أوروبي ـــ آسيوي جديد».



دوديك... يوم كان حليفاً لـ«الغرب»


ميلوراد دوديك. من مواليد عام 1959. تخرّج من كلية العلوم السياسية في «جامعة بلغراد»، في صِربيا. ترأّس «تحالف الديموقراطيين الاجتماعيين المستقلّين» عام 1996. وانتُخب رئيساً لحكومة «جمهورية الصِّرب» مرّتين في عامَي 1998 و2006، ومن ثمّ رئيساً لـ«جمهورية الصِّرب» مرّتين، أيضاً، في عامَي 2010 و2014، وهو يشغل حالياً، ومنذ عام 2018، موقع العضو الصِّربي في مجلس رئاسة البوسنة والهرسك. مثّل دوديك في البداية، بديلاً لـ«الغرب» من «الحزب الديموقراطي الصِّربي» القومي، قبل أن تتبدّل مواقفه في وقت لاحق، إلى حدٍّ دفع الولايات المتحدة إلى فرض عقوبات عليه، في عام 2017، بعد اتهامه بـ«عرقلة» تنفيذ اتفاق «دايتون»، واعتباره «تهديداً كبيراً لسيادة البوسنة والهرسك». تقول وزيرة الخارجية الكرواتية السابقة، فيسنا بوسيتش، إنه «عندما اعتقد دوديك أن مستقبله يكمن مع الغرب، اعترف علناً بالإبادة الجماعية في سريبرينيتشا، ونبذ مجرمي الحرب من صِرب البوسنة، وقدّم نفسه كمؤيد قوي لوحدة البوسنة ومستقبلها في الاتحاد الأوروبي»، إلّا أنه «عندما حوّل ولاءاته (...) تغيّرت سياساته وخطابه بشكل كبير. حدث ذلك تدريجياً مع مرور الوقت». وعن تجربتها الشخصية مع دوديك، تروي الوزيرة الكرواتية، في مقالة كتبتها لـ«فورين بوليسي» الأميركية، عن لقاء جمعها به في بداية العقد الأول من القرن الحالي، حيث تقول إن دوديك قال لها، خلال مناقشة دارت بينهما حول لعبة كرة القدم، إنه «في مباراة بين فريقي صِربيا والبوسنة، سيشجّع بالتأكيد الفريق الصِّربي، نظراً إلى أن كرة القدم في البلقان لا تتعلّق أبداً بكرة القدم فقط». تُعلّق بوسيتش على ما قاله دوديك: «حتى في ذلك الوقت، عندما كان لا يزال يُنظر إليه على أنه حليف للغرب، رأيت تعليقه كعلامة مُقلقة على حدوث تغيير في موقفه».


مركزية... لا مركزية
يرأس الدولةَ مجلسٌ رئاسي من ثلاثة أعضاء من الأعراق الثلاثة: بوسني وصربي وكرواتي، يُنتخب بشكل مباشر من الشعب، كلّ أربع سنوات، ويتناوب على رئاسته عضو من الأعضاء كلّ ثمانية أشهر. ويرشّح المجلس الرئاسي رئيساً لمجلس وزراء الدولة، ويوافق عليه برلمانها. وبالنسبة إلى السلطة التشريعية، يتألّف برلمان البوسنة والهرسك من غرفتَين، هما: مجلس النواب ومجلس الشعب. يبلغ عدد أعضاء مجلس النواب 42، لـ«الفيدرالية» 28 منهم، ولـ«الجمهورية» 14، ويُنتخب جميعهم وفق النظام النّسبي. أمّا مجلس الشعب، فعدد أعضائه 15، يُنتخبون من قِبَل بقية البرلمانات، على أن يكون لـ«الفيدرالية» 10 منهم: 5 من البوشناق و5 من الكروات، ولـ«الجمهورية» 5 من صرب البوسنة. وليمرّ أيّ تشريع، يجب أن يحصل على الأغلبية في الغرفتَين. وبالنسبة إلى النِّصاب، فقد تمّ تحديده بالنسبة إلى مجلس الشعب، بتسعة أعضاء من أصل الأعضاء الـ15، على أن يكون التسعة ثلاثة أثلاث، ثلث لكلّ مجموعة عرقية من المجموعات الثلاث. يمكن اعتبار كلّ من «الفيدرالية» و«الجمهورية» إدارة ذاتية قائمة بحدّ ذاتها. تُحكم الأولى بنظام برلماني، ولها رئيس وحكومة وبرلمان منتخَب بشكل مباشر من شعبها، ولكلّ كانتون من كانتوناتها العشرة حكومة وبرلمان. أمّا «الجمهورية»، فهي تُدار بنظام رئاسي، ولها حكومة ومجلس نواب خاص بها، أيضاً.