عندما تدور الشبهات حول ثروة حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، يكلّف شركة خاصة بالتدقيق في حساباته الشخصية، ليعلن براءته. وعندما تدور الشبهات حول ثروة رجا سلامة، يكلّف حاكم مصرف لبنان هيئة التحقيق الخاصة، التي يرأسها، التدقيق في حسابات شقيقه. يحدّد الزمن المشمول بالتدقيق، ليضمن إجراءه بعد الفترة المشتبه في أن الشقيقين سلامة جمعا إبّانها ثروة نتيجة عقد موقّع بين شركة خاصة يملكانها ومصرف لبنان. في الحالتين، يريد رياض سلامة، ومن خلفه المصارف، القول إن القضاء ممنوع من دخول القطاع المصرفي: أنا أحقق، أنا أدقّق، وأنا أعلن براءتي وبراءة شقيقي
منتصف الشهر الجاري، روّج حاكم مصرف لبنان رياض سلامة لـ«مفاجأة نقدية قضائية سيفجّرها... من شأنها أن تُسبّب إرباكاً في المسارات القضائية المفتوحة داخلياً وخارجياً». بعد يومين (17 تشرين الثاني 2021)، نشر بياناً خلاصته أنه كلّف شركة تدقيق مالي الكشف على حساباته، وأنها أنجزت مهمتها مؤكدة أنّ جميع حساباته سليمة، وأنه لم يستفد من مال مصرف لبنان العام. في بيانه ذاك، كان سلامة، المشتبه فيه باختلاس الأموال وتبييضها، كمن يقول «أنا المحقق وأنا القاضي، وقررت أنني بريء». ما قام به سلامة بشأن حساباته، لجهة محاولة «القوطبة» على القضاء، فعله أيضاً بشأن شقيقه رجا، شريكه في شبهة الاختلاس وتبييض الأموال أمام القضاء في كل من لبنان وسويسرا وفرنسا (التي لا يزال الادعاء فيها موجّهاً ضد مجهول، مع اعتبار الأخوين سلامة في دائرة الشبهة) وألمانيا ولوكسمبورغ.
يوم 21 تشرين الأول الماضي، بعث رياض سلامة، بصفته رئيس هيئة التحقيق الخاصة بمكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب في مصرف لبنان، كتاباً إلى الأمين العام للهيئة، عبد الحفيظ منصور، يُبلغه فيها أنّ الهيئة قررت في جلستها المنعقدة يوم 21/10/2021، «تكليف الأمين العام لـ«الهيئة» التدقيق في حسابات «رجا توفيق سلامة» لدى كل من بنك عوده ش.م.ل. والاعتماد اللبناني ش.م.ل. وبنك البحر المتوسط ش.م.ل. خلال الفترة من 1/1/2016 لغاية تاريخه، وإفادة الهيئة بالنتائج». هذا الطلب أثار الكثير من التساؤلات لدى مصادر معنية بالتحقيق مع الشقيقين سلامة. صحيح أنّه إجراء داخلي يخصّ القطاع المصرفي، إلا أنّ ذلك لا يعني انفصاله عن التحقيق القضائي. ومن جملة هذه التساؤلات:
أولاً، كيف يحق لسلامة، بصفته رئيس هيئة التحقيق الخاصة، التدخّل في تحقيق قضائي أو مالي مع شقيقه؟ هذه القرابة بينهما، إضافةً إلى شراكتهما المالية المشتبه فيها، تضرب حيادية أي إجراء يتّخذه سلامة في هذا المجال. وكان على الحاكم، ولو من باب الاحترام الشكلي للأصول، التنحي عن الملف.
ثانياً، بعد أكثر من عام على فتح التحقيق حول أمواله وأموال شقيقه في سويسرا، وبعد أكثر من 8 أشهر على فتح التحقيق بشأنهما في لبنان، وبعد 6 أشهر على دهم مكتب تابع لشقيقه في بيروت، لماذا قرّر سلامة التدقيق بحسابات رجا سلامة «الآن»؟
تجيب المصادر نفسها بأنّ ما قام به حاكم مصرف لبنان هدفه الحصري «القوطبة» على التحقيق القضائي المفتوح لدى النيابة العامة التمييزية في ثروة الشقيقين سلامة، بعد الاشتباه فيهما بجرم اختلاس الأموال من قبَل النيابة العامة السويسرية واللبنانية والنيابات العامة في عدد من الدول الأوروبية. وتربط المصارف بين طلب هيئة التحقيق الخاصة التدقيق بحسابات رجا سلامة، وبين طلب النيابة العامة التمييزية من المصارف الثلاثة تزويدها بكامل المعلومات المتوفرة لديها عن حسابات رجا سلامة، وامتناع هذه المصارف عن تلبية الطلب، وصولاً إلى تقدّم أحد المصارف (البحر المتوسط ــــ «ميد») بطلب مداعاة الدولة أمام الهيئة العامة لمحكمة التمييز، بسبب ما سمّاه «الخطأ الجسيم» الذي «ارتكبه» المحامي العام التمييزي بالتكليف، القاضي جان طنوس، لجهة طلبه كشوفات جميع حسابات رجا سلامة، منذ عام 1993 حتى عام 2021، في إطار التحقيق المفتوح حول ثروة حاكم مصرف لبنان وشقيقه رجا وآخرين. وطلب المصرف أيضاً إبطال طلب القاضي طنّوس، واعتبار الأخير «مرفوع اليد عن أي عمل يتعلق» بمصرف البحر المتوسط ــــ «ميد».
ثالثاً، طلب سلامة التدقيق في حسابات شقيقه بدءاً من 1/1/2016. لكنّ التحقيقات القضائية تشمل الفترة الممتدة من عام 1993 حتى عام 2021، وتتركّز على الفترة الممتدة من عام 2001 حتى عام 2015. ففي الفترة الأخيرة (2001 ــــ 2015)، كانت شركة «فوري» تعمل وفق عقد موقّع مع مصرف لبنان، كوسيط مالي في مجال سندات الدين بالعملات الأجنبية. وعام 2015، انتهى وجود تلك الشركة التي اعتبر المدعي العام الاتحادي السويسري أنها كانت واجهة للشقيقين رياض ورجا سلامة، لجمع ثروة تفوق الـ 300 مليون دولار نتيجة العقد الموقّع مع مصرف لبنان. وترى مصادر معنية بالتحقيق أنّ سلامة تعمّد أن يطلب من هيئة التحقيق الخاصة التدقيق بحسابات شقيقه بعد 1/1/2016، ليُخرِج من دائرة التحقيق ما له صلة بشركة «فوري» التي انتهى وجودها وأُقفِلَت حساباتها في العام السابق، والتي تستند إليها كل الشبهات المسوقة بحق الأخوين سلامة.
كلّف سلامة الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة التدقيق في حسابات شقيقه في الفترة اللاحقة لإنهاء شركة «فوري»


رابعاً، تتوقّف مصادر في القطاع المالي عند تسلسل المراسلات بين سلامة والأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة، والمصارف المعنية، وفق الآتي:
أ- يوم 26/10/2021، بعث بنك عوده إلى هيئة التحقيق الخاصة بكتاب يشير إلى معلومات يجري التداول بها «إعلامياً وقضائياً حول شبهات تتناول حسابات السيد رجا توفيق سلامة في المصارف اللبنانية». وقال «عوده» إنّ حسابات رجا سلامة كانت مفتوحة لدى «بنك عوده للخدمات الخاصة ش.م.ل. وقد تم إقفالها بتاريخ 30/12/2016».
ب- يوم 26/10/2021، بعث بنك البحر المتوسط بكتاب «سرّي جداً» إلى هيئة التحقيق الخاصة، يتحدّث فيه عن «أخبار إعلامية وقضائية متداولة عن احتمال ارتباط رجا توفيق سلامة بمخالفات قانونية محتملة». كذلك قال «البحر المتوسط» إن بعض مصارف المراسلة تستفسر «بشكل لافت»، عن «هذا الزبون». كما أنّ «أحد المصارف المراسلة الأساسية التي نتعامل معها طلب منا، عبر كتاب يحمل صفة «سرّي»، التوقف عن استعمال حساباتنا لديهم لتنفيذ عمليات مصرفية لمصلحة الزبون المشار إليه أعلاه».
ج- يوم 17/10/2021، بعث مصرف «الاعتماد اللبناني» بكتاب إلى هيئة التحقيق الخاصة، يتحدّث أيضاً عن «ما يتم التداول به إعلامياً وقضائياً حول شبهات تتناول حسابات السيد رجا توفيق سلامة». وقد طلبت المصارف الثلاثة من «الهيئة» إعلامها بما يتوجّب القيام به.
د- يوم 1/11/2021، بعث الأمين العام لهيئة التحقيق الخاصة، عبد الحفيظ منصور، بكتاب إلى «حضرة الحاكم، رئيس هيئة التحقيق الخاصة»، رياض سلامة، يُبلغه فيه بمضامين كتب المصارف الثلاثة، قبل أن يقترح عليه «تكليفنا التدقيق في حسابات السيد رجا توفيق سلامة»، لدى المصارف الثلاثة، خلال الفترة الممتدة من 1/1/2016.
هذه المراسلات (شبه المتطابقة) بين المصارف الثلاثة والهيئة، كما كتاب الهيئة إلى رياض سلامة، أتت بعد 10 أيام على الكتاب الذي بعث به سلامة نفسه إلى منصور يبلغه فيه بتكليفه التدقيق بحسابات رجا سلامة، وهو الأمر نفسه الذي اقترحه منصور بعد عشرة أيام! كيف يستقيم ذلك؟ تردّ مصادر مقرّبة من حاكم مصرف لبنان بأن المراسلات بين الهيئة وأمينها العام تتأخر أحياناً، كون الأخير ممنوعاً بالقانون من المشاركة في جلسات هيئة التحقيق الخاصة! أما بشأن تحديد تاريخ 1/1/2016 كنقطة انطلاق للتدقيق في حسابات رجا سلامة، فتقول مصادر المصارف إن هذا الأمر يستند إلى القانون الذي يفرض على البنوك أن تحتفظ بسجلات الحسابات المقفلة لديها، لخمس سنوات على الأقل بعد إقفالها. في المقابل، تردّ مصادر معنية بالتحقيق، من داخل القطاع المالي، بأن القانون لا يُحدّد مهلة قصوى للاحتفاظ بالسجلات، ولم يسبق أن أتلف مصرف سجلات لحسابات كبار المودعين أو الشخصيات «المعرّضة سياسياً». فمثلاً، عندما تطلب السلطات الأميركية معلومات عن حسابات شخصيات بشبهة تمويل الإرهاب، تعود هيئة التحقيق الخاصة لتدقق في هذه الحسابات إلى ما قبل عشرين عاماً أحياناً. يُضاف إلى ما سبق أن المصارف الثلاثة وعدت المدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات بالاستجابة لطلب القاضي طنوس، ما يعني موافقتها ضمنياً على العودة بالحسابات إلى عام 1993، إلا أنها لم تستجب لطلب النيابة العامة التمييزية، رغم مضيّ شهر ونصف شهر على صدوره.
الثابت أنّ جميع هذه المراسلات بين المصارف والهيئة وحاكم مصرف لبنان، إنما صدرت بعدما طلب القاضي طنوس، يوم 7/10/2021 من المصارف تزويده بكشوفات حسابات رجا سلامة. وما يقوم به الحاكم، والمصارف، هو السعي إلى تثبيت أن القضاء غير مخوّل الحصول على أي معلومات عن الحسابات المصرفية، ولو في إطار تحقيق قضائي بشبهة الإثراء غير المشروع. وهذه ليست تهمة، بل هو ما أورده مصرف «البحر المتوسط» في طلب مداعاة الدولة الذي تقدّم به وكيلاه، المحاميان رشيد درباس وأسامة سلمان، إلى الهيئة العامة لمحكمة التمييز يوم 5 تشرين الثاني 2021، لإبطال طلب القاضي طنوس الحصول على كشوفات حسابات رجا سلامة.
القاضي استند إلى المادة السابعة من قانون السرية المصرفية، التي تنص على أنه لا يمكن للمصارف أن تتذرّع بسرّ المهنة بشأن الطلبات التي توجّهها السلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع. أما الوكيلان القانونيان لبنك «ميد»، فيريان أنّ تلك المادة باتت بحكم الملغاة، بعد صدور قانون مكافحة الفساد عام 2020. وفيما يرى قضاة وقانونيون أنّ اعتبار المادة السابعة من قانون السرية المصرفية «هرطقة لا أساس لها قانوناً»، ذكّر المحاميان في طلبهما بدور هيئة التحقيق الخاصة الذي منحها إياه القانون 44/2015 (قانون مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب)، لجهة إجرائها التحقيقات المرتبطة بتبييض الأموال. وهنا، يردّ قضاة وقانونيون مختصون بالشأن المالي بأنّ صلاحيات الهيئة مُتصلة حصراً بجُرمَي تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، وأنّ طلب وكيلَي بنك «ميد» يمنح الهيئة صلاحيات إضافية تتصل بأصل الجرائم التي قد يرتكبها شخص ما. فعلى سبيل المثال، لو ارتكب شخص ما جناية سرقة أموال بالكسر والخلع، ثم قام بتبييض الأموال عبر القطاع المصرفي، لا تُحقّق الهيئة في جريمة السرقة، بل إن عملها محصور بالتبييض. أما وكيلا «ميد»، فيمنحان الهيئة صلاحية التحقيق في جريمة السرقة أيضاً. فالنيابة العامة التمييزية تُحقّق في جريمة إثراء غير مشروع، وهي لأجل ذلك طلبت الحصول على حسابات رجا سلامة. وتشير مصادر قضائية إلى مسألة تتصل بما تراه «قاعدة عامة»، مفادها أن القضاء مُلزم بتضييق نطاق السرية المصرفية مع تقدّم الزمن، لا توسيعه. أما سلامة والمصارف، فيريدون عبر رسائلهم وطلباتهم القول إن القضاء ممنوع من دخول المصارف: سلامة يكلّف شركة خاصة التدقيق بحساباته، ثم يكلّف هيئة التحقيق الخاصة التدقيق بحسابات شقيقه، وما على القضاء سوى الأخذ بنتائج تحقيقات الشركة الخاصة التي اختارها سلامة، وتحقيقات الهيئة التي يرأسها سلامة أيضاً.



العودة إلى القاضي سهيل عبّود
تنص المادة السابعة من قانون السرية المصرفية الصادر عام 1956 على أنه «لا يمكن للمصارف (...) أن تتذرّع بسر المهنة المنصوص عليه في هذا القانون بشأن الطلبات التي توجهها السلطات القضائية في دعاوى الإثراء غير المشروع المقامة بموجب المرسوم الاشتراعي رقم 38 تاريخ 18شباط سنة 1953 وقانون 14 نيسان سنة 1954».
الوكيلان القانونيان لمصرف البحر المتوسط («ميد»)، المحاميان رشيد درباس وأسامة سلمان تقدّما بطلب مداعاة الدولة، بناءً على «خطأ جسيم» نسباه إلى المحامي العام التمييزي بالتكليف، القاضي جان طنوس، لأنه استند إلى المادة السابعة المذكورة أعلاه، في طلبه من مصرفهما الحصول على كشوفات حسابات رجا سلامة.
برأي المحاميين، فإن القانون 11/2020 (قانون مكافحة الفساد) ألغى القانون 154/99 الذي ألغى بدوره قانون الإثراء غير المشروع الصادر عام 1953، محتفظاً في المادة 13 منه «لقاضي التحقيق والمحكمة المختصة صلاحية إعمال المادة السابعة من قانون السرية المصرفية». لكن قضاة وقانونيين يشيرون إلى أن القانون 11/2020 ألغى القانون 154/99 ولم يلغِ قانون السرية المصرفية الذي لا يزال سارياً بمواده كافة، ومنها المادة السابعة التي تُلغي السرية المصرفية عندما يتعلق الأمر بالتحقيق بالإثراء غير المشروع. ويشير قضاة وقانونيون إلى أنه سبق للمدعي العام التمييزي القاضي غسان عويدات أن استند إلى المادة السابعة من قانون السرية المصرفية، ليطلب من المصارف تزويده بأسماء جميع الأشخاص الذين حازوا سابقاً أو يحوزون حالياً صفة الموظف العمومي، مع مجموع المبالغ المالية التي تم تحويلها إلى الخارج من قِبَل كلٍّ منهم، في الأعوام 2019 و2020 و2021. وفي ذلك الطلب الصادر يوم 24/6/2021، والذي لم تستجب له المصارف بعد، لم يسأل عويدات التدقيق في تلك الحسابات، بل طلب الحصول على معلومات عنها وعن أصحابها وتحويلاتهم إلى الخارج، لتكون هيئة التحقيق الخاصة مجرّد وسيط لا جهة تحقيق.
تجدر الإشارة إلى أن طلب «مداعاة الدولة» الذي تقدّم به بنك «ميد»، بات في عهدة الهيئة العامة لمحكمة التمييز التي يرأسها رئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي سهيل عبود. ومن المتوقع أن تنعقد الهيئة الأسبوع الجاري، للنظر في طلب «ميد» كما في طلبات عدد من المدعى عليهم في انفجار المرفأ، الذين يتهمون قاضي التحقيق لدى المجلس العدلي، طارق البيطار، وقضاة آخرين، بارتكاب «أخطاء جسيمة».