القاهرة | «الممثّلة التي شقت طريقها بأظافرها». بهذه الكلمات الصائبة، وصف الكاتب المصري الكبير إحسان عبد القدوس، سهير البابلي (1935 ــ 2021) التي رحلت عن عالمنا أول من أمس الأحد عن 86 عاماً بعد تعرضّها لأزمة صحية طارئة في بداية الشهر الحالي. اثنان من كلاسيكات وروائع المسرح الكوميدي، أدّت بطولتهما سهير البابلي: «مدرسة المشاغبين» (1973 إخراج جلال الشرقاوي ـ بطولة: سعيد صالح، عادل إمام، عبد الله فرغلي، يونس شلبي، أحمد زكي، حسن مصطفى، سهير البابلي، هادي الجيار) و«ريا وسكينة» (1982 ـــ إخراج حسين كمال ـ بطولة شادية وسهير البابلي).
()

يُقال إنّ الضحك في فنّ الكوميديا لا ينبع فقط من الممثّل صاحب الإيفيه أو الفعل الكوميدي، وإنّما من ردة فعل الممثّل الذي يقف أمامه. لعلّ أكبر مثال على ذلك هو سهير البابلي التي لا يمكن تصوّر هاتين المسرحيّتين بدون وجودها وتمكّنها من التحكم الشديد بأدائها. ممثلات كثيرات من جيلها أو الأجيال الأخرى كن سيفقدن تماسكهنّ أمام عبثيّة الأداء والإيفيهات التي ملأت «مدرسة المشاغبين» مثلاً. وقد وصل الأمر إلى درجة أن يتراهن «المشاغبون الخمسة» في الكواليس على أن يدفعوها إلى الضحك، من دون أن ينجحوا في ذلك إطلاقاً على مدى سبع سنوات هي عمر عروض المسرحية. فهي، لم تبتسم ولو مرة، فيما لم تبالغ في الأداء الحركي أو الصوتي أو الانفعالات. كانت «أستاذة»، يمكن تدريس أدائها ومهاراتها.
هل هي الموهبة أم الخبرة؟ هل هو تحكّم قوي بالنفس أم تقمّص لامحدود للشخصية؟ بالتأكيد، هي أشياء كثيرة اجتمعت معاً لتصنع واحدة من أقدر ممثّلات الكوميديا المصرية والعربية.
قدّمت ثنائياً نسائياً متفرّداً مع إسعاد يونس تجلّى في «بكيزة وزغلول»


في «مدرسة المشاغبين»، كانت سهير البابلي المرأة الوحيدة على الخشبة. ومصادفة أو قصداً، فإنّ الفتاة التي يتحدّث عنها التلاميذ في العمل تُدعى «سهير». وبغض النظر عن الكوميديا، فإنّ شخصية «أبلة عفّت» معلمة الفلسفة القوية نفسياً وبدنياً والواثقة بنفسها، تظل البطلة الحقيقية للدراما ومحرّكاتها الأساسية. وعلى مدار عمرها الفني الطويل في المسرح والتلفزيون والسينما، ارتبط اسم سهير البابلي بأداء شخصية المرأة القوية. منذ «مدرسة المشاغبين»، أثبتت ابنة محافظة دمياط الساحلية (شمال مصر) أنّها قادرة على دخول «عالم الرجال» والمنافسة فيه، واقتحام مجال الكوميديا. صحيح أنّه كانت هناك ممثّلات مسرح متميّزات من جيل سهير البابلي، ولكنهن انتمين أكثر إلى المسرح الجاد أو مسرح الدولة. بدأت سهير طريقها على الخشبة مثلهن، لكنّها اختارت أن تكون نجمة في مسرح القطاع الخاص، بمسرحيات كوميدية وهزلية، وأن تحمل على عاتقها المهمة الأصعب: إضحاك الجمهور. وقد نجحت واستمرت واحتفظت بتلك المكانة من دون أن تنافسها أي زميلة.
هكذا، انطلقت البابلي صانعة نجوميتها الخاصة في مسرحيات مثل «نرجس، قصة الحي الغربي» (1975)، «يا حلوة متلعبيش بالكبريت» (1977)، «الدخول بالملابس الرسمية» (1979) و«ريا وسكينة» (1982). والمسرحيتان الأخيرتان ستشكّلان نقطة انطلاق جديدة وتحوّل مصيري في تاريخ سهير البابلي الفني.

سهير البابلي وأحمد بدير في مشهد من مسرحية «ريّا وسكنية»

في «الدخول بالملابس الرسمية»، قدّمت الراحلة ثنائياً نسائياً متفرّداً مع إسعاد يونس، استمر بعد ذلك في عدد من الأعمال البارزة في تاريخ الكوميديا المحلية. فإسعاد يونس ممثلة كوميدية متميزة، ومنتجة وموزعة أفلام في ما بعد، قبل أن تخوض أخيراً تجربة محاورة الفنانين على الشاشة الصغيرة. ولكن في بداية الثمانينيات، كان لدى إسعاد شغف بالكتابة الكوميدية، ظهر في قصة مسلسل «بكيزة وزغلول» التي صارت «باترونا» يفصّل على أساسها عدد من كتّاب الكوميديا أعمالهم. وُلد العمل الدرامي من فكرة لسهير البابلي، باحت بها لإسعاد قائلة: «عايزة أعمل «الأيدي الناعمة» على ستات». و«الأيدي الناعمة» (1964 ــ إخراج محمود ذو الفقار) فيلم مصري شهير جسّد فيه أحمد مظهر شخصية نبيل سابق مفلس ولكنّه محتفظ بعجرفته وغروره، يجمعه القدر بشاب فقير ولكنه خدوم ومتواضع (صلاح ذو الفقار). في «بكيزة وزغلول»، نحن أمام قصة تجمع بين هانم مفلسة وفتاة متسوّلة تجبرهما الظروف على العيش معاً. فالأولى أرملة عجوز ثري خسر كل شيء، والثانية ابنة ضالة لهذا العجوز الذي تركها تتشرّد في الشوارع منذ ولادتها. عرض المسلسل عام 1987 وحقّق نجاحاً ساحقاً، وصار الناس في مصر يتندّرون بأسماء الشخصيّتين، ينادون المغرورة المتغطرسة «بكيزة»، والعشوائية الصعلوكة «زغلول». واستثماراً للنجاح الذي أحدثه العمل، حاول منتجون استغلاله في أعمال متواضعة، كفيلم «ليلة القبض على بكيزة وزغلول» ومسرحية «نص أنا... نص إنتي» في 1988.
العمل الثاني الذي كان نقطة تحول كبيرة في حياة سهير البابلي هو مسرحية «ريا وسكينة» أمام شادية للمخرج حسين كمال. تجلّت إمكانات سهير في هذا العمل، حيث قدّمت أداء كوميدياً لافتاً وفريداً من نوعه، ممزوجاً بالقدرة على الغناء والاستعراض بجوار واحدة من أهم مطربات مصر، فضلاً عن مشاهد درامية بالغة الصعوبة.
رشدي أباظة وفؤاد المهندس وسعاد حسني والبابلي في فيلم «جناب السفير» (1966 ـــ اخراج نيازي مصطفى)

بعد «ريا وسكينة»، ثبّتت البابلي قدميها أكثر على خشبة المسرح، وصارت واثقة من إمكاناتها ومن تعلّق الجمهور بها. وهو ما أدّى إلى رفع يافطة «كامل العدد» في ليالي عرض مسرحياتها، على شاكلة «ع الرصيف» (1987 ــ راجع الكادر)، «العالمة باشا» (1991) و«عطية الإرهابية» (1992). وقد شاركت سهير البابلي في المسرح السياسي، وقدمت مسرحيات تنتقد ظروفاً اجتماعية معيّنة أو شخصيّات سياسية محدّدة. مسرحيتها «ع الرصيف» (1987 ــ تأليف نهاد جاد وإخراج جلال الشرقاوي) مثلاً، أثارت جدلاً كبيراً لجرأتها، وتعرّضت للرقابة بعدما سمّت شخصيات سياسية محددة. في بداية حياتها، التحقت سهير البابلي بـ «المعهد العالي للفنون المسرحية» و«معهد الموسيقى» في الوقت نفسه، بتشجيع من والدها الذي كان يعمل ناظراً في إحدى مدارس البنين الثانوية، وقد وجد في ابنته القادرة على تقليد الممثلين مشروع فنانة. عملت في بدايتها مع أمينة رزق وسناء جميل في المسرح القومي، وخطت سهير أولى خطواتها في عالم الفن في منتصف الخمسينيات، بالظهور في أفلام بأدوار صغيرة، كفتاة طيبة أو شريرة، تقدّم مشاهد محدودة وتختفي، من دون أن تترك تأثيراً كبيراً في قصة الشريط، كما حدث في «ساحر النساء»، «المرأة المجهولة»، «نهر الحب»، «البنات والصيف»، «يوم من عمري»، «لعبة الحب والجواز»، «جناب السفير»، «غرام تلميذة»، «العاطفة والجسد» وغيرها.
على مدار عمرها الطويل في المسرح والتلفزيون والسينما، ارتبط اسمها بأداء شخصية المرأة القوية


لم ينتشل سهير من التخبّط في السينما سوى المسرح الذي أظهر موهبتها جلياً. بعدما لمعت على الخشبة، بدأت السينما تستدعيها مجدداً ولكن من خلال أدوار في غاية الصعوبة، تتطلّب ممثلة قديرة حتى لو كان الظهور محدوداً. وهو ما تُرجم في استعانة المخرج حسن الإمام بها ومنحها شخصية جديدة تماماً عليها في فيلم «أميرة حبي أنا» عام 1975. الجديد هنا كان كم الشر والكآبة والتجهّم الذي أظهرته في شخصية «أماني». لاحقاً، قدّمها المخرج محمد عبد العزيز عام 1981 في شخصية مشابهة ضمن أحداث فيلمه «انتخبوا الدكتور سليمان عبد الباسط». وكعادته، كان يقف على الجانب الآخر يوسف شاهين الذي يكتشف مناطق جديدة في الممثلين الذين يعمل معهم ومن ضمنهم سهير البابلي. فبعدما قدّمها في أحد أصعب أفلامه «فجر يوم جديد (1965) مكتشفاً فيها نوعاً من المجون، يقرّر الكشف عن المزيد في الجزء الثاني من سيرته الذاتية «حدوتة مصرية» (1982) الذي لعبت فيه البابلي دور الأم المتسلّطة والقوية والحريصة على التحكّم بكلّ من حولها. لم تنصف السينما سهير البابلي كثيراً وكانت دائماً تعود أدراجها إلى بيتها وملاذها: المسرح. ثم حدث في عام 1997، أن قرّرت مثل بعض ممثلات تلك الفترة أن تعتزل الفن وترتدي الحجاب تحت وطأة «المدّ السلفي»، وبعد جلسة طويلة مع الشيخ محمد متولي الشعراوي. لكن «عفريت الفن» لم يترك معشوقته تماماً. وبعد اعتزالها بسبع سنوات، عادت مرة أخرى للعمل في التمثيل ولكن بمظهرها الجديد، مرتديةً الحجاب والعباءات الفضفاضة. وأصبح اسمها الجديد بين زملائها والعاملين معها «الحاجة سهير». إلا أنّها في تلك الفترة لم تحقّق نجاحات كالسابق، ولم تقدّم على مدار 16 عاماً سوى مسلسلين، هما: «قلب حبيبة (2005) و«قانون سوسكا» (2016). برحيل سهير البابلي، تسقط ورقة أخرى من شجرة المبدعين المصريّين. ولكنّها كما أي مبدع، ترحل جسداً وتظل في القلب والذاكرة بأرشيفها الغني وإخلاصها وحبّها لفنها. والدليل أنّ الأجيال تتوارث الضحكات التي صنعتها. فالتعليقات والـ «ميمز» على صفحات التواصل الاجتماعي لا تتوقف عن اقتباس عشرات الجمل والمواقف الكوميدية التي قدمتها على مدى عقود.



مع عادل إمام وسعيد صالح في «مدرسة المشاغبين»