يعود منتخب لبنان لكرة القدم إلى قواعده ليبدأ مشواراً من استضافة المنتخبات يمتدّ إلى خمس مباريات متتالية بعد رحلة دامت أربع مباريات خارج الديار، جمع خلالها المنتخب اللّبناني خمس نقاط من فوز على منتخب سوريا وتعادُلين مع العراق والإمارات وخسارة وحيدة أمام كوريا الجنوبية.يعود منتخب لبنان إلى أرضه ولكن ليس إلى جمهوره «لأسباب أمنية» بعد طول غياب. غياب يمتد إلى حوالى السنتين منذ أن كان يخوض منافسات الدور الأول من التصفيات.
صورة اليوم الكروية هي عبارة عن أجزاء يطول الحديث عن كل جزء منها! فلكل جزء قصة ومعاناة وظروف صعبة لكن خلاصتها إنجاز تحقّق، بعرق اللاعبين بالدرجة الأولى، مروراً بجهد الجهاز الفني كاملاً بقيادة التشيكي إيفان هاشيك وبدعم الجمهور اللّبناني، وليس انتهاءً بالجهود المبذولة من القيّمين على المنتخب من اتحاد ومسؤولين الذين يعملون باللّحم الحيّ ومن دون دعم في بلاد تُعاني ما تُعانيه من مشكلات وأزمات.
جزء من الصورة يتحدّث عن خوض لبنان لمنافسات التصفيات النهائية. منتخب لبنان هو واحدٌ من أفضل 12 منتخباً في قارة آسيا. أمرٌ يبدو عكس المنطق لبلد تُعاني فيه كرة القدم جرّاء الظروف الاقتصاديّة الصعبة والتي تحتاج أنديته لدعم مالي تأمّن من قبل الاتحاد للبقاء على قيد الحياة، ولعب كرة القدم. بلدٌ نصف لاعبي منتخبه يعيشون فيه، ويُعانون يومياً لتأمين مقوّمات الحياة الأساسية من ماء وكهرباء ووقود لهم ولعائلاتهم...
صحيح أن لبنان تأهّل إلى التصفيات النهائية بعد أن لعبت ظروف ما لصالحه، لكن هذه الظروف تحديداً وقفت في وجهه مرّات ومرّات وحرمته من تحقيق الإنجازات والتأهّل في أكثر من مناسبة.
جزء آخر من الصورة يتحدّث عن واقع منتخب لبنان في المجموعة الأولى. يحتلّ المركز الثالث برصيد 5 نقاط خلف إيران المتصدّرة (10) وكوريا الثانية برصيد ثماني نقاط وأمام الإمارات الرابعة برصيد ثلاث نقاط والعراق الخامس بفارق الأهداف عن الإمارات، ويحتلّ المنتخب السوري المركز الأخير بنقطة وحيدة.

مفاجأة التصفيات
منتخب لبنان الذي يعتبر البعض أنه تأهّل بالصّدفة، وكان كثيرون ـ إلا قلّة قليلة ـ يظنّون أنه سيكون «جسر عبور» أو «كيس ملاكمة» للمنتخبات الأخرى يحتلّ المركز الثالث برصيد خمس نقاط. هو الأول على صعيد المنتخبات العربية في المجموعة وضاغط على كوريا الجنوبية صاحبة المركز الثاني المؤهّل مباشرة إلى نهائيات كأس العالم، بفارق ثلاث نقاط. «منتخب الأرز» يتقدّم على ثلاث دول عربية تملك من المقوّمات، على جميع الصّعد، ما لا يمكن لمنتخب لبنان مجرّد الحلم به.
وصل المنتخب إلى المرحلة الحاسمة من التصفيات رغم الظروف الصعبة. هو منتخب بلدٍ مظلم بلا كهرباء، مأزوم محاصر ومحارب، يستجدي المساعدات والرضى والصفح على ذنبٍ لم يرتكبه أصلاً. بلد نهشه الفساد، لا يملك أبسط مقوّمات الحياة، فتأتي مجموعة لاعبين منه وتقارع الدول الكبرى كروياً على صعيد قارة آسيا. لاعبون تحوّلوا بعد أربع مباريات إلى بارقة أمل وبقعة ضوء في ظلمة مطلقة. لاعبون في منتخب تحوّل إلى جامع للبنانيّين في بلد مقسوم عمودياً على جميع الصُّعد. منتخب تحوّل إلى باعثٍ للروح الوطنية وإلى تعزيز للانتماء لمجموعة فقدت الأمل في كل شيء. فقدت الأمل بالهوية والانتماء وأصبح مشروع الهجرة هدفها الأول.
رسم لاعبو المنتخب اللبناني لوحة إيجابية بعكس المشهد السائد في لبنان حالياً


منتخب لبلد ينظر إليه شركاؤه في التصفيات بشكل عام وفي المجموعة بشكل خاص نظرة دونية على الصعيد الكروي، إذا لم نقل أكثر من ذلك. منتخب كان يظن كثيرون أن مشاركته ستكون أشبه بـ«عابر سبيل»، لكن كل شخص معني بالمنتخب حوّله إلى رقم كروي صعب.
من يرى واقع المنتخب اليوم، وكيف فاز على سوريا وتعادل مع الإمارات والعراق خارج الديار، يتأكّد أن الأمر يستحق الثناء، في ظل غياب الدعم الحكومي وأبسط مقومات المشاركات الخارجية المطلوبة. بلدٌ إذا فكّر مسؤولوه الكرويّون طلب دعم مادي سيكون الجواب الأول والسريع «لنؤمّن الحاجات الأساسية أولاً قبل أن نفكر بالفوتبول».
منتخب لبنان متروك لأمره يتأهّل بمعجزة ويلعب كرة قدم بمعجزة ويُشارك خارجياً بمعجزة. منتخب أصبحت منذ سنتين أي مشاركة خارجية له تكلّف ثروة بالمليارات نظراً لتدهور العملة الوطنية.

استضافة استثنائية
جزء آخر من صورة اليوم الكروي يتعلّق باستضافة مباراة في لبنان وعلى ملعب لبناني. أمرٌ أيضاً عكس المنطق. إذ طرحت أسئلة كثيرة على مستوى القارّة، فكيف يمكن لاتحاد قارّي أو دولي أن يوافق على استضافة لبنان لمباراة بمستوى تصفيات نهائية مؤهّلة إلى كأس العالم، حيث لا ملعب بالمواصفات المطلوبة موجود، ولا دعم مادي رسمي موجود، ولا استقرار سياسي وأمني موجود. لكن رغم ذلك كان هناك إصرار على إقامة المباراة في لبنان وعدم تنازل المسؤولين عن اللّعبة عن هذا الحق، مهما كلّف الثمن. تم تأهيل ملعب صيدا باللّحم الحي. وتم إقناع المسؤولين الآسيويّين والدوليّين بشتى الوسائل لعدم نقل المباراة إلى الخارج. أما على صعيد الحضور الجماهيري، فقد كانت الأمور ـ حتى ما قبل أحداث الطيونة ـ تسير بالشكل المطلوب حول إمكانية حضور الجماهير، إلا أن ما حصل قد حصل، واتُّخذ القرار من الاتحادين الدولي والآسيوي بحجة الوضع المتوتر أمنياً وسياسياً. كان القرار المرّ الذي غيّب الجمهور عن الملعب، لكن لم يلغِِ دوره الرئيسي المحفّز للاعبين.
«كلّنا معكم. كلّنا وراءكم. إلعبوا لأجلنا...». كلّها عبارات يوجّهها الجمهور للاعبين عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
حالة وطنية كروية جامعة في مشهد استثنائي عكس جميع الظروف.
بغضّ النظر عمّا سيحصل اليوم وما ستتنهي إليه نتيجة المباراة، وما قد يحصل يوم الثلاثاء المقبل مع الضيوف الإماراتيّين أيضاً. ما تحقّق حتى الآن من قبل اللّاعبين والجهاز الفني أولاً، إنجازٌ غير مسبوق انطلاقاً من الظروف التي يعيشها البلد. وبغض النظر عمّا سيتحقق، لا يعني أن القصة انتهت. قد يكون هناك أجزاءٌ أخرى وإنجازات أخرى. قد يكون للحديث تتمّة. هذا ما ستكشفه السّاعات والأيّام المقبلة...