للمرّة الأولى منذ إعلان فوز "التيار الصدري" بأكبر كتلة لتيّار واحد في انتخابات مجلس النواب التي جرت الشهر الماضي، يحدّد زعيم التيار مقتدى الصدر، تصوّره للحكومة المقبلة التي يريدها حكومة أغلبية، تقابلها معارضة، وهو برنامجه الأصلي القاضي بالقطع مع مرحلة "الحكومات التوافقية" التي أدارت البلد في فترة ما بعد الغزو. لكنّ ذلك الطرح ينطوي على مخاطر كبيرة، خاصة أن القوى "الشيعية" الأخرى مستمرّة في اعتراضها في الشارع على ما تعتبره تزويراً للانتخابات، وشراءً للأصوات بأموال خليجية، وسط مخاوف من نقل البلد إلى موقع آخر في الاصطفاف الإقليمي، الأمر الذي يُعتبر مغامرة غير محسوبة
وضع مقتدى الصدر خارطة لشكل الحكومة المقبلة، ولموقع العراق، كما يتصوّرهما، في تغريدة قال فيها إنه "لا ينبغي القول بأن لي خلافاً مع الكتل السياسية سوى مسألة الإصلاح الداخلي والخارجي، ومسألة الفرق بين الوطنية والتبعية"، مضيفاً "أنني أرى أن أوّل ما ينبغي فعله هو تشكيل حكومة أغلبية وطنية، فيكون في البرلمان جهتان: جهة الموالاة - إن جاز التعبير - وهي التي تشكّل الحكومة وتأخذ على عاتقها الإصلاحات بكلّ مستوياتها السياسية والحكومية والخدمية والدبلوماسية وغيرها. وجهة معارضة: وسيكونون لنا إخوة في الوطن، وسيكون توافقهم استشارة ملزمة لنا ولن نهمّشهم. ونحن لا نمانع في أن نكون في أيّ من الجهتين، فكلتاهما من أجل خدمة الوطن". بهذه الخارطة، يكون الصدر قد رفض عملياً فكرة التوافق مع القوى «الشيعية» الأخرى لتسمية رئيس وزراء جديد، وقفز فوق الاحتجاجات على نتائج الانتخابات من جانب "الإطار التنسيقي" الذي يضمّ خصوصاً "تحالف الفتح" و"ائتلاف دولة القانون" ومستقلّين، والذي يشتبه في حصول تزوير مباشر في العملية الانتخابية، وضخّ مال سياسي خليجي هدف إلى إضعاف حلفاء طهران، بالإضافة إلى تدنّي نسبة الاقتراع، بما يحتّم التوصّل إلى حلّ لمسألة النتائج، قبل تحديد شكل الحكومة المقبلة، خاصة أن الاحتجاجات انتقلت إلى الشارع ولم تبقَ في الإطار السياسي، ما يعني أن تجاهلها قد تكون له عواقب.
ويعاكس موقفُ الصدر الأجواءَ التي أُشيعت بعد الانتخابات، ومفادها أن التوافق هو الحلّ المنطقي للخلاف على النتائج، خصوصاً أن التصويت لم يفرز أغلبية واضحة تستطيع الحكم بمفردها، حتى إذا جرى التسليم بحصيلته كما هي. وبناءً عليه، كانت الأطراف الداخلية والخارجية المعنيّة قد تلقّت وعوداً من الصدر بالتوصّل إلى حلّ توافقي لمسألة الحكومة، قبل أن يأتي الموقف الصدري الأخير، والذي صيغ بعبارات فضفاضة لا تبدو كفيلة بحجْب التوجّهات الواضحة لديه، والتي تختصر كلّ الخلاف بينه وبين القوى المعارضة له، وخاصة على الساحة «الشيعية»، سواءً في ما يتعلق بإدارة الدولة في الداخل، والتي كان الصدر شريكاً فيها على طول الخطّ، ولكنه شخصياً نجح في أخذ مسافة منها، بما أعطاه مرونة أكبر في التنصّل من تبعاتها، أو على مستوى العلاقات الخارجية للعراق، وبالتحديد العلاقة مع إيران، التي ألمح إليها في حديثه عن أن خلافه مع الكتل السياسي يتمحور حول "الفرق بين الوطنية والتبعية". هكذا، أراد الصدر إيصال رسالة إلى طهران بأنه يريد علاقة جيدة معها، ولكن على أساس استقلال كلّ من البلدين، لكنه بهذا يتّهم ضمناً إيران بالتدخّل في شؤون العراق عبر "تبعية أطراف عراقية" لها، متجاهلاً أن في البلد أطرافاً كثيرة تابعة لقوى خارجية، مثل حليفه المحتمل في حال أراد الذهاب إلى حكومة أغلبية، محمد الحلبوسي، الذي أتاح له الدعم المالي الإماراتي والسعودي تكبير كتلته البرلمانية إلى نحو 38 نائباً، وحليفه المحتمل الآخر مسعود بارزاني المعروفة علاقاته بإسرائيل والخليج، والذي لا تزال تراوده أحلام انفصال إقليم «كردستان» عن العراق.
يخاطر الصدر بوضع العراق على طريق صدام يستفيد منه "داعش" والاحتلال والانفصاليون


أكثر من ذلك، فقد سبق أن تردّدت في الأوساط «الشيعية» المناهضة للصدر، اتهامات لتيّاره بتلقي أموال من الخليج، وبأن الإمارات والولايات المتحدة ساهمتا في تزوير الانتخابات لمصلحته، عبر التلاعب بـ«السيرفيرات» الموجودة في الدولة الخليجية، والتي جرى عبرها الفرز الإلكتروني للنتائج. وبمعزل عن صحّة هذه الاتهامات التي رفعها المحتجّون على لافتات أثناء تظاهراتهم، من عدمها، فإن الصدر نفسه يجاهر برغبته في إقامة علاقة جيّدة مع السعودية والإمارات، وسبق له أن زار ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، في أوج صعود الأخير. وإذا كان السعي إلى إقامة علاقات مع دول الجوار ليس عيباً بذاته، فهو يصبح كذلك عندما تكون تدخّلات هذه الدول واضحة في شؤون العراق، بل والتآمر عليه. وفي حال السعودية، أغرق هذا التآمر البلد في بحيرة من الدماء التي أراقها مئات الانتحاريين السعوديين الذين كانوا يتسابقون على وضع أسمائهم على لوائح الراغبين في تفجير أنفسهم نتيجة للتحريض الوهابي، في مدينة الصدر في بغداد والنجف وكربلاء والبصرة وغيرها من المدن، حيث يقيم جمهور كبير للصدر. لكنّ الأخير لم يسبق له أن اشتكى من هؤلاء الانتحاريين، أو ربّما هو يرى أن إقامة علاقة جيّدة مع السعودية، تُجنّب العراق كأس الأزمات والاضطرابات. ولكن ألا يُعتبر موقفه خضوعاً؟ وفي كلّ الأحوال، أليس العراق الذي حكمه ديكتاتور لنحو 25 عاماً منذ عام 1979، وزجّه في مجموعة حروب منهكة، ثمّ أورثه احتلالاً مستمرّاً حتى الآن مع وعد بالخروج بحلول نهاية العام الجاري، ساحة للتدخّلات الخارجية التي مزّقته تمزيقاً، بحيث لم تبقَ دولة في العالم إلّا وبلّت يدها فيه؟
وبعيداً عن كلّ ذلك. في بلد كالعراق، تعبّر الدعوة إلى تشكيل حكومة أغلبية تقابلها معارضة، عن رغبة في الاستئثار بالحُكم. فالعراق ليس السويد حتى يمكن إقامة حكومة أغلبية ومعارضة على فارق ضئيل، وانتظار الانتخابات التالية لتغيير الواقع. وبهذا الموقف، يخاطر الصدر بوضع البلاد على طريق صدام سيستفيد منه تنظيم "داعش" العائد إلى النشاط من جديد، والاحتلال الذي قد يجد في العراق من يستدعيه مجدّداً بحجّة أن خروجه أطلق يد التنظيم الإرهابي، وبكلّ تأكيد الانفصاليون في الشمال الذين سيستفيدون من كونهم جزءاً أساسياً من الحكومة المركزية، في حال تشكيل حكومة أغلبية، لدفع برنامجهم إلى الأمام، فضلاً عن جماعة الحلبوسي الذين سيكون مطلوباً منهم تنفيذ طلبات داعميهم في السعودية والإمارات، وإلّا فلن يستطيع الصدر جمع أغلبية الـ165 مقعداً المطلوبة لنيل الحكومة الثقة في البرلمان؛ فهو يملك 72 مقعداً من إجمالي مقاعد المجلس البالغة 329، وفي حال تحالفه مع بارزاني والحلبوسي يصبح لديهم معاً ما بين 140 و143 نائباً، تبعاً للنتائج النهائية.