لم يكن ظهور سعد الجبري، الرجل الثاني في وزارة الداخلية السعودية تحت إدارة محمد بن نايف، في برنامج «ستّون دقيقة» على قناة «سي بي أس» الأميركية، حدثاً إعلامياً محضاً، بل هو يأتي في سياق صراع سياسي بين إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن ووليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، آخر مظاهره ارتفاع أسعار النفط. ولأن الصراع كبير، جاء كلام الجبري ثقيل العيار، إذ كشف الرجل أن ابن سلمان تفاخر في عام 2014 أمام ابن نايف، بأنه يستطيع اغتيال الملك عبدالله، عبر خاتم مسموم يحصل عليه من روسيا، ليصبح أبوه سلمان، الذي كان في حينها ولياً للعهد، ملكاً. لا يَعرف الجبري إن كان كلام ابن سلمان يعكس خطّة مدبّرة أم أنه مجرّد تفاخر، إلّا أنه يؤكد أن أجهزة الأمن السعودية أخذته على محمل الجدّ، وأن الاعتراف مسجّل على شريط فيديو تتوافر منه نسختان يعرف الجبري مكانهما. وربط معارضون سعوديون بين هذه الواقعة وقيام الملك الراحل بطرد ابن سلمان من مجلسه آنذاك. وزادوا أنه تمّ طرد الأمير الشاب أيضاً من المملكة، حيث سافر إلى إسبانيا وقتها، إلّا أن واقع أن البطش داخل الأسرة لم يكن من سمات ملوك السعودية، خاصة أن الموضوع يتعلّق بابن ولي عهد، أنقذ رقبة ابن سلمان. أمّا اليوم، فسيكون لحديث الجبري وقْع بين أبناء عبدالله، الذين يمثّلون، حتى في وضعهم الراهن، جزءاً أساسياً من مشكلة وليّ العهد مع الأسرة الحاكمة التي يحتاج إلى مباركتها ومباركة الإدارة الأميركية للاستمرار في السلطة، وكذلك داخل القبائل التي كان عبدالله متحالفاً معها. وحالياً، لا يمكن أن تكون علاقة طامح إلى المُلك مع كلّ من هذَين «الناخبَين» الرئيسيَن للملك، أسوأ ممّا هي عليه في حالة ابن سلمان.خلال المقابلة، وصف الجبري ابن سلمان بـ«المضطّرب عقلياً»، وبأنه «يمثّل تهديداً للأميركيين وللسعوديين وللكوكب بكامله»، متحدّثاً عن أن ولي العهد أرسل فريقاً من ستّة عناصر لقتله في كندا حيث يقيم، في منتصف تشرين الأول 2018، أي بعد أقلّ من أسبوعين على قتل جمال خاشقجي وتقطيعه في قنصلية السعودية في اسطنبول، لكنّ السلطات الكندية اكتشفت «المؤامرة» بعد تضارب أقوال أعضاء الفريق أمام عناصر الجمارك عن معرفة بعضهم ببعض، واكتشاف معدّات لاختبار الحمض النووي في أمتعتهم. وكان لمقابلة الجبري وقعٌ كبير في أوساط ابن سلمان، فردّ عليها قريبون من الأخير من أمثال الكاتب تركي الحمد، الذي كتب في تغريدة على «تويتر»، أن «كلّ الكروت الحاسمة التي استخدمتها إدارتا بايدن و(باراك) أوباما لتركيع السعودية الجديدة ونبذها، اتّضح أنها كروت متهالكة متهاوية، وهي كرت الحادي عشر من أيلول، وكرت خاشقجي، وكرت أسعار النفط، وأخيراً كرت الجبري». لكنّ التعليق الأكثر تعبيراً عن الضيق جاء من حساب «ملفّات كريستوف» الذي يَعتقد معارضون سعوديون أن سعود القحطاني يكتب شخصياً تغريداته، إذ قال: «استفزّتني كثيراً طريقته المبتذلة في البكاء والتذلّل استمراراً لبكائه وتسوّله عند أبواب السفارات. من المؤسف أن يشار إلى هكذا جبان بأنه مسؤول سعودي سابق».
يَعتبر بايدن ارتفاع الأسعار تهديداً مباشراً لإدارته عبر ضرب التعافي الاقتصادي


وتعزيزاً لكلام الجبري، جرت استضافة المدير السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية «سي آي إي»، مايكل مارو، في البرنامج نفسه، حيث وصف المسؤول السعودي السابق بـ«المحترم والصادق»، مشدّداً على أن أميركا يجب أن يكون لديها «التزام أخلاقي تجاهه لأنه أنقذ حياة أميركيين»، مقدّماً مثلاً على ذلك، حين أرسل «تنظيم القاعدة في اليمن» محابر مفخّخة على متن طائرات شحن إلى الولايات المتحدة، وجرى اعتراضها بفضل معلومات الجبري، إلّا أنه رفض الحديث عن حالات كثيرة أخرى فعل المسؤول السعودي السابق فيها الأمر نفسه، ولكنها ما زالت سرّية. اللافت أن مارو شخّص وضْع ابن سلمان داخل السعودية من وجهة نظره، حين قال إن هناك مجموعتين من الناس في المملكة: الأولى تشمل من هم سعداء جداً بابن سلمان وهؤلاء يمثّلون 70 في المئة من الشباب، والثانية تضمّ الذين لا يحبّون ولي العهد أبداً، ، لأنه غيّر «السيستم»، ومن هؤلاء الحرس القديم والعائلة الحاكمة. على أيّ حال، ما كان الجبري الذي يُعتبر أخطر معارض طليق لابن سلمان، ليقبل بالظهور والحديث بهذه اللهجة القاسية عن وليّ العهد، لولا أنه يحظى بضمانات أميركية لا يرقى إليها الشكّ، حول سلامة ابنه وابنته وصهره المسجونين في السعودية للضغط عليه بهدف إرغامه على العودة إلى المملكة، ولا كانت السلطات الأميركية لتدفع باتجاه ظهوره، لولا أن علاقتها بابن سلمان تزداد تدهوراً، والسبب الرئيس في الحال هذه اليوم، هو أن ولي العهد يلعب مع الأميركيين في موضوع أسعار النفط.
يعتبر بايدن ارتفاع الأسعار تهديداً مباشراً لإدارته عبر ضرب التعافي الاقتصادي الذي كلّف الاحتياطي الفيدرالي الأميركي في فترة حُكمه وحدها نحو تريليونَي دولار، على شكل تقديمات مالية للأميركيين تعوّضهم تعطّل أعمالهم خلال تفشّي وباء «كورونا». وقد بدأت آثار ذلك الارتفاع تَظهر لدى الأسر الأميركية، تضخّماً في أسعار السلع الاستهلاكية، وخصوصاً وقود السيارات والتدفئة. في المقابل، يحتاج ابن سلمان إلى أسعار نفط مرتفعة لتخفيف الضغط عليه، الناجم عن زيادة الضرائب والرسوم على المواطنين، وتعويض الأموال التي ذهبت لتمويل الحروب والمشاريع الاقتصادية المتعثّرة التي أطلقها منذ وصوله إلى السلطة في عام 2017. هذا الصراع بدأ يخرج إلى العلن، إذ صرّح وزير النفط السعودي، عبد العزيز بن سلمان، الأخ غير الشقيق لولي العهد، ردّاً على إلقاء اللوم المستمرّ من جانب بايدن على السعودية في ارتفاع الأسعار: «يمكن لأميركا وقف صادراتها النفطية إلى الخارج كأحد الحلول التقنية المتاحة. وأوبك لن تُغيّر استراتيجيتها وليس عليها أن تحلّ مشكلة لم تخلقها». ولا يبدو أن لدى الولايات المتحدة حلولاً جاهزة لقضية أسعار النفط بمعزل عن «أوبك». فحتى الحدّ من الصادرات الأميركية أو ضخّ جزء من المخزون الاستراتيجي في السوق قد لا يفي بالمطلوب؛ إذ إن الخيار الأخير سيكون ذا مفعول مؤقّت جدّاً، بينما الأوّل ينتهك العقود التجارية ويُغضب المستوردين. وكان بايدن قد أرسل إلى ابن سلمان، مستشاره للأمن القومي، جايك سوليفان، ليبحث معه إمكانية تدخّل «أوبك» في السوق لوقف ارتفاع الأسعار، إلّا أن ولي العهد السعودي لم يستجب له، ليكتب ديفيد إغناتيوس بعدها مقالاً في «واشنطن بوست» يصف فيه ابن سلمان بأنه «نقطة ضعف العلاقات السعودية - الأميركية».
ربّما يمارس ابن سلمان ضغطاً على بايدن لدفعه إلى التراجع عن قراره عدم التعامل المباشر معه، بسبب اغتيال خاشقجي، لكنّ بايدن الذي تنازل سابقاً لولي العهد السعودي من خلال الإحجام عن فرض عقوبات شخصية عليه بعد صدور تقرير «سي آي إي» الذي حمّله مسؤولية جريمة قتل خاشقجي، أعلن قبل أيام أنه غير مستعدّ للتعامل مع ابن سلمان مباشرة من أجل النفط، فيما واقعة ظهور الجبري على الإعلام تشير إلى أن بايدن لا يستطيع، حتى إذا أراد، أن يتنازل بعد. هو أصلاً فعل ما فعله استجابة لضغط من الداخل الأميركي حيث لا يتمتّع ابن سلمان بأيّ شعبية، وبالتالي، فإن الطريق الوحيد أمامه، ربّما، المزيد من التصعيد.