صنعاء | استراتيجية القضم البطيء التي اعتمدتها قوات صنعاء، منذ بدء محاولاتها استعادة مدينة مأرب، بدأت تؤتي ثمارها على الأرض، حيث باتت تلك القوات على بعد 6 كيلومترات فقط من المدينة، توازياً مع انقلاب متواصل ومتصاعد في الموقف القبَلي لصالحها. انقلابٌ لا يزال الجيش اليمني و«اللجان الشعبية» يضعان رهانهما عليه لاسترجاع مركز المحافظة من دون قتال، على رغم أن المكاسب التي حقّقاها أخيراً ركست المشهد الميداني لحسابهما بالكامل، باعتراف خصومهما، ووضعتهما على طريق دخول مأرب التي تسودها حالة فوضى ناتجة من تخبّط القيادات الميدانية والعسكرية الموالية للتحالف السعودي - الإماراتي في التعامل مع الحدث
مكاسب متسارعة حقّقتها قوّات صنعاء خلال الفترة القليلة الماضية، في جبهات القتال الممتدّة من البوّابة الغربية لمحافظة الجوف، وحتى البوّابة الجنوبية الشرقية لمدينة مأرب، مروراً بالبوّابتَين الغربية والشمالية الغربية للمدينة. وهي مكاسب تمّ تأمينها مسبقاً بشكل كلّي، بتحرير عدد من مديريات محافظة البيضاء الغربية والشرقية، الممتدّة من الزاهر غرباً، وحتى نعمان وناطع شرقاً، وصولاً إلى الصومعة والحازمية ومسورة جنوب شرقي المحافظة. ولم يكتفِ الجيش و«اللجان الشعبية» بإغلاق الفراغات الناتجة من هدن هشّة أبرماها مع القبائل في البيضاء ومديريات جنوب مأرب، بعدما استغلّتها قوات الرئيس المنتهية ولايته، عبد ربه منصور هادي، لفتح ثغرات عسكرية تستهدف إعاقة تقدّم خصومها نحو مدينة مأرب، بل نفذّا خلال الفترة الممتدّة بين تموز وتشرين الأول سبع عمليات عسكرية استعادا من خلالها مساحة تزيد عن 8790 كلم، وفق ما أعلنه المتحدّث الرسمي باسم قوات صنعاء، العميد يحيى سريع. ومن بين تلك العمليات ثلاثٌ نُفّذت في البيضاء، أُطلقت عليها تسمية «النصر المبين الأولى»، وأدّت إلى استرجاع الزاهر والضاحكي وأجزاء من الصومعة (يبلغ مجموع مساحتها 100 كلم) منتصف تموز الفائت في غضون 72 ساعة، و«النصر المبين الثانية» التي انطلقت في الـ20 من الشهر نفسه، واستمرّت عدّة أيام لتنتهي إلى سيطرة قوات صنعاء على مديريتَي نعمان وناطع في البيضاء أيضاً، بمساحة تُقدَّر بـ390 كلم. أمّا «النصر المبين الثالثة» فُنفّذت في الشهر ذاته أيضاً، لتتمّ من خلالها استعادة مديريتَي رحبة والماهلية (1200 كلم) في مأرب، فضلاً عن السيطرة على مثلّث الصدارة الذي يتحكّم بالطرقات العامّة في مديريات الجوبة والعبدية وحريب في المحافظة المذكورة.
أنقر على الصورة لتكبيرها

وفي آب الماضي، كثّفت حكومة صنعاء لقاءاتها مع مشائخ مديريتَي الصومعة ومسورة في البيضاء، واللتين مثّلتا أحد أهمّ معاقل تنظيم «القاعدة» في اليمن. وتزامن ذلك مع رصد استخباراتي نشط لتحرّكات التنظيم في المديريتَين، قبل أن يتمّ إطلاق عملية عسكرية مباغتة أُطلق عليها اسم «فجر الحرية» منتصف أيلول 2021، وانتهت بسقوط معاقل «القاعدة» في الصومعة ومسورة، ومعها مديرية نعمان، وفرار مقاتلي التنظيم باتجاه مديرية لودر في محافظة أبين، وباتجاه عقبة القنذع المطلّة على محافظة شبوة، فيما استُعيدت 2700 كلم كنتيجة للعملية. وتكلّلت تلك التحوّلات العسكرية بحسم قوات صنعاء معركة مديريتَي بيحان وعين في شبوة في أيلول الماضي، وتقدّمها صوب مديريتَي مرخة العليا ومرخة السفلى في المحافظة نفسها، في عملية أُعلن عنها الأحد الماضي تحت اسم «ربيع الانتصارات»، فتحت الطريق أمام توغّل الجيش و«اللجان» في جبهات جنوب شرق مأرب، لتتمّ السيطرة على مديرية حريب، وأجزاء واسعة من مديرية الجوبة، وأخيراً حسم معركة مديرية العبدية، لتنتقل المواجهات إلى مديرية جبل مراد التي تواجد قوات صنعاء في أطرافها من ثلاثة اتجاهات.
تتعمّق هوّة الثقة بين قوات هادي وقبائل مأرب التي انقلب الكثير منها إلى ضفّة «أنصار الله»


هذه التطوّرات العسكرية التي توقّفت بسقوط مديرية العبدية الأسبوع الماضي، أربكت قوات هادي، ودفعتها إلى نقل مقرّاتها العسكرية الحسّاسة من مدينة مأرب إلى محافظة حضرموت قبل أيام، كما أثارت مخاوف قيادات عسكرية وحزبية في حزب «الإصلاح» من قرب سقوط المدينة، خصوصاً بعد إعلان صنعاء رسمياً، لأوّل مرّة منذ عدّة أشهر، عن أهمّ العمليات العسكرية التي بدأت مجرياتها بين الطرفين منذ نيسان الماضي، بعملية كبرى امتدّت من غرب الجوف وجبهات الجدافر والعلم الأبيض وماس والكسارة والمشجح، وصولاً إلى الطلعة الحمراء والبَلق القِبْلي، أُطلق عليها اسم «البأس الشديد»، وأدّت إلى استعادة مساحة مُقدّرة بـ1600 كلم. كما أعلن سريع، الأسبوع الماضي، عملية أخرى أُطلق عليها «فجر الانتصار»، كامتداد لعملية «البأس الشديد»، شاركت فيها مختلف التشكيلات العسكرية، نُفّذت من عدة مسارات، لتؤدّي إلى استرجاع 600 كلم في الجبهتَين الغربية والشمالية الغربية المتاخمتَين لمدينة مأرب. وأكد سريع أن الجيش و«اللجان» أصبحا اليوم على مشارف مركز المحافظة من عدّة جهات، بعد أن استعادا عدّة مديريات بشكل كامل، فيما عرض «الإعلام الحربي» التابع لقوات صنعاء، مشاهد نهارية وليلية لمدينة مأرب على بعد 6 كلم مربع من تمركز تلك القوات.


هذا التحوّل في المشهد الميداني أدّى إلى تعميق هوّة الثقة بين قوات هادي وقبائل مأرب التي انقلب الكثير منها إلى ضفّة «أنصار الله»، فيما يفاوض مَن تَبقّى من قبائل مراد وعبيدة خارج إطار مبادرة إحلال السلام في المحافظة، قيادة صنعاء، للاستقرار معها على التفاهم الأنسب. ويأتي ذلك في وقت تتصاعد فيه الاتهامات المتبادلة بالخيانة والفشل في إدارة المعركة داخل المعسكر الموالي للتحالف السعودي - الإماراتي، ويغادر العشرات من القيادات العسكرية والضباط وأسرهم مدينة مأرب، بعدما نقلوا أموالهم إلى خارجها وعرضوا عقاراتهم فيها للبيع. وتزايدت عمليات «النزوح» تلك بعد سقوط مديرية العبدية، التي شكّلت بالنسبة إلى قوات هادي وحزب «الإصلاح» إيذاناً باقتراب الحسم، الذي بات قراره في يد قوات صنعاء، الساعية، إلى الآن، على رغم المكاسب التي حقّقتها، إلى تجنيب المدينة القتال، خصوصاً في ظلّ الجنوح المتزايد لدى القبائل إلى الدخول في السِلْم.