لم تكُن مذكّرة التوقيف الغيابية التي أصدرها القاضي طارق البيطار في حق الوزير السابق المُدّعى عليه علي حسن خليل، حدثاً قضائياً مُنفصلاً عن مسار التسييس الذي يغرق به المحقق العدلي في قضية انفجار مرفأ بيروت. فهذا الإجراء لم يكُن تفصيلاً، بل دليل آخر على انخراطه في عملية تصفية الحسابات التي تقودها جهات دولية ومحلية ضد خصومها في الداخلِ.جاءت المذكرة على شكل «دفعة على الحساب»، رداً على كلام الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله أول من أمس. وهو سجّل سابقة جديدة بإصراره على إصدار مذكرة التوقيف مع أنّ الوكيل القانوني لخليل أبرز طلب الردّ الذي تقدم به ضده، فأجابه البيطار بأنه لم يتبلّغ به، علماً أنّ المناقبية القضائية تفرض على القاضي أن يرجئ الجلسة بمجرد إبلاغه. كذلك لم يقبل طلب المحامي المعين حديثاً الاستمهال للإطلاع على الملف. ولدى وصول المباشر لإبلاغه بقرار رئيس الغرفة الأولى في محكمة التمييز المدنية القاضي ناجي عيد رفع يده (مؤقتاً) عن الملف لحين البتّ بطلب الرد المقدم من النائبين خليل وغازي زعيتر، أجاب بأنه سيتبلغ فور انتهاء الجلسة. وكما كان مخططاً سطّر مذكرة التوقيف وسرّبها للإعلام ثم تبلّغ طلب رده.
وطلب الرد هو محاولة جديدة لكف يد المحقق العدلي بعدَ أن أسقط رئيس محكمة الاستئناف في بيروت القاضي نسيب إيليا طلبات مماثلة تقدّم بها الوزير السابق المدعى عليه نهاد المشنوق، وكذلك فعلت رئيسة الغرفة الخامسة في محكمة التمييز المدنية، القاضية جانيت حنا، مع طلبات رد سابقة تقدم بها زعيتر وخليل، فرفضتها بالشكل من دون النظر فيها ومن دون حتى تبليغ البيطار بها. علماً أنه لم يُسجّل في تاريخ العدلية إصدار محكمة تمييز قراراً خلال 24 ساعة. فيما تشير معلومات إلى أنّ لرئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبود يداً في تعيين الهيئات وإعطاء التوجيهات للإسراع في البت بالطلبات، وكأنه في سباق مع 19 الشهر موعد عودة انعقاد دورة المجلس النيابي وعودة الحصانات على النواب.
عملياً انتقلت القضية إلى مستوى آخر، وبعد دعوة السيد نصرالله «مجلس الوزراء ومجلس القضاء الأعلى إلى التدخل سريعاً لوقف التسييس الفاضح الذي يحيط بعمل المحقق العدلي»، انطلقت سلسلة من الاتصالات والمشاورات ذات الطابع السياسي والإجرائي قام بها مسؤولون كبار في حزب الله مع عدد كبير من القوى السياسية المعنية والممثلة في الحكومة. وتم التوافق بصورة مبدئية على أن يطرح ممثلو حزب الله وحركة أمل في الحكومة الأمر من خارج جدول الأعمال، على قاعدة تقديم مطالعة تولاها وزير الثقافة القاضي محمد مرتضى. وكانت الوجهة واضحة: المطلوب من مجلس الوزراء خطوة عملية، وفي حال رفضت الحكومة البت بالأمر، فإن الوزراء الشيعة سينسحبون من الجلسة ولن يستمروا في متابعة جدول الأعمال. وخطوة مجلس الوزراء ليست منفصلة عن برنامج يبدو أن المناقشات بين حزب الله وحلفائه في الحكومة توصلت إلى صياغة أولية له، ويشمل مجموعة من الخطوات الهادفة إلى منع الاستمرار في المسرحية القائمة.
مرتضى: قرارات البيطار مخالفة للدستور وتؤدي إلى مواجهات في الشارع


في جلسة الحكومة، قدّم مرتضى مطالعة تحدث فيها عن «استنسابية القاضي البيطار وتسييس التحقيقات»، معتبراً أن «قراراته مخالفة للدستور وهي تؤدي إلى الفوضى وضرب الاستقرار، والمطلوب من الحكومة أن تأخذ موفقاً واضحاً وسريعاً في شأنه». ولفت مرتضى إلى «وجود لغط حول عمل المحقق وإلى اعتراضات ليس فقط سياسية وإنما شعبية عليه، وذلك يُمكن أن يؤدي إلى خلق شارع مقابل شارع».
طرح الوزير مرتضى بدا لافتاً لجهة نبرته العالية وتحذيره من أن فشل الحكومة في معالجة الأمر قد يدفع البلاد صوب مواجهات قاسية، ما جعل النقاش ينتقل إلى مستوى آخر، كان الأساس فيه موقف الرئيس ميشال عون الذي قال إن لبنان بلد فيه فصل بين السلطات، ولا يمكن لمجلس الوزراء أن يفرض إجراءات عمل على السلطة القضائية. وعقب الرئيس نجيب ميقاتي بالدعوة إلى التمهل ودراسة الموقف موافقاً على فكرة تكليف وزير العدل. لكن ما اعتبره مرتضى محاولة تمييع الموقف، استدعى نقاشات جانبية جرى خلالها التدخل من زاوية أن وزراء آخرين حذروا من مغبة القيام بخطوة تنعكس انفجاراً في الشارع المؤيد للبيطار وهو ما دفع بالرئيس عون إلى الضرب على الطاولة معلناً رفع الجلسة إلى الغد.
بعد ذلك، طلب ميقاتي البت بملف تعيينات جزئية ضرورية لتسيير المرافق العامة، ثم تقرر رفع الجلسة وعقد أخرى اليوم لاستكمال البحث في ملف تفجير المرفأ. خصوصاً أن وزراء أمل وحزب الله والمردة رفضوا استكمال الجلسة بسبب عدم اتخاذ قرار بشأن المحقق العدلي.
يتضح من سياق مداولات مجلس الوزراء، أن القوى المشاركة في الحكومة، بما في ذلك تيار المستقبل والحزب التقدمي الاشتراكي، لا تمانع إيجاد المخرج القانوني الذي يمنع أخذ البلاد صوب مواجهات غير مطلوبة، خصوصاً أن هذه القوى تبلغت على ما يبدو بأن حزب الله وحركة أمل وتيار المردة والنائب طلال إرسلان ليسوا في صدد ترك الأمر، وأن الاستعداد للتحرك في الشارع حقيقي وقد يذهب باتجاهات واسعة أيضاً. لذلك، يبدو أن الجميع يبحث عن المخرج القانوني الملائم، وهو ما تحول إلى مادة لاتصالات سياسية واسعة استكملت بعد انتهاء جلسة الحكومة في انتظار ما يفترض أن يقترحه وزير العدل هنري خوري في جلسة اليوم بما يسمح بمعالجة الأزمة. علماً أن هذه الأزمة كشفت عن ثغرة تشريعية تتعلق بالسلطة التي لها الحقّ في ردّ المحقق العدلي، وهو ما يحتاج إلى تدخُّل المشرع ليحدد الجهة المولجة بذلك بعدما تبيّن أنه لم يعد ممكناً ردّ المحقق العدلي.
بحسب مصادر قانونية، يمكن الهيئة العامة لمحكمة التمييز أن تجتمع لتعيين مرجع للبت بردّ المحقق العدلي، وأن تخرج باجتهاد يحدد محكمة معينة للبت من قبيل سد الثغرة القانونية. وفيما لا صلاحية لوزير العدل أو لمجلس الوزراء بردّ المحقق العدلي، إلا أن في إمكان مجلس الوزراء العدول عن مرسوم إحالة قضية المرفأ إلى المجلس العدلي وإعادة الملف إلى المحكمة العسكرية باقتراح من وزير العدل الذي يمكنه أيضاً أن يقترح تعيين محقق عدلي آخر نظراً لخطورة الوضع.