قبل نحو أسبوعين، أعلن وزير العمل مُصطفى بيرم عن مساعٍ لإعادة تفعيل اتفاقيةٍ «تؤمّن فرص عمل للبنانيين في قطر ما يُساهم في خفض معدّلات البطالة». التصريح الذي يعكس «التصالح الرسمي» مع هجرة القوى العاملة يؤشر إلى نيّة المُضي في «عقلية» النموذج الاقتصادي القائم على تصدير العمالة عموماً، والعمالة الماهرة خصوصاً، طمعاً بتحويلات المغتربين. ولطالما كان النظام التعليمي اللبناني يُخرّج «عمالاً يتناسبون مع متطلبات سوق العمل الخارجية وفق استراتيجية مُعدّة سلفاً»، وفق وزير العمل السابق شربل نحاس.
يجب إعادة الاعتبار إلى التعليم المهني وإلى العمالة الفنية التي كانت البلاد تشهد نقصاً فادحاً فيها (هيثم الموسوي)

لذلك، فإنّ موجة الهجرة الكبيرة للعمالة الماهرة حالياً ليست «غريبة» على «النموذج» الذي يشجّعها بسبب تعاظم الحاجة إلى دولارات المُسافرين. فما هو التأثير الفعلي لهجرة العاملين المهرة على الاقتصاد؟ وأيّ نوع من العمالة يُشكّل الخسارة الكبرى؟

ضرب الإنتاج وتعثّر النهوض
يلفت رئيس قسم الاقتصاد في جامعة LAU غسان ديبة إلى أن الوجه الإيجابي الحالي لتصدير العمالة مرتبط بسدّ العجز في الميزان التجاري، «وعليه، قد لا يكون أثر الهجرة ملموساً في الوقت القريب. لكنّ تداعيات تصدير العمال الماهرين في المديين المتوسط والبعيد - مع الحاجة إلى النهوض الاقتصادي - سلبية على الإنتاجية التي لا تستقيم من دون الابتكار والتخصّص والتكنولوجيا». بمعنى آخر، «عادة» الاتّكال على أموال المغتربين كانت لتصلح لو كان النموذج الاقتصادي القديم لا يزال «مُعافى»، لكنّ الاقتصاد البديل، أياً يكن «شكله»، سيكون في حاجة بالدرجة الأولى إلى العمالة الماهرة.
الانتعاش من الأزمات الحالية سيتطلب تغييراً جذرياً في هيكلية الاقتصاد اللبناني، وفق ما يؤكد لـ«الأخبار» مسؤول البرامج الوطنية في المكتب الإقليمي للدول العربية في منظمة العمل الدولية جاد ياسين. «فلبنان بحاجة إلى تطوير قطاعات وأنشطة اقتصادية جديدة تتناسب مع الوقائع الماكرو - اقتصادية الجديدة، كانخفاض قيمة الليرة وعدم قدرة القطاع المصرفي على لعب دور فعّال في تمويل الاقتصاد وغلاء المحروقات (...) ويلعب الشباب دوراً أساسياً في مثل هذه الأزمات، إذ تشكل قدرة إبداعهم ومهاراتهم وروح ريادة الأعمال لديهم المحرّك الأساس للتحولات الضرورية».
ويشدّد ياسين على أن الرأس المال البشري، في ظل عدم قدرة الموازنة العامة على تمويل التعافي الاقتصادي وفي غياب المساعدات وضعف ثقة المستثمرين، يُمثّل إحدى أهم نقاط القوة التي يتمتع بها الاقتصاد اللبناني والتي ستسمح له بالنهوض. لذلك «فإن هجرة الشباب المتعلّم ستصعّب من نمو القطاعات الإنتاجية، لأنه بحكم تطور الاقتصاد العالمي، أصبحت المهارات والمعرفة أموراً أساسية تمكّن لبنان من بناء ميزة تنافسية تجاه شركائه التجاريين».
الحديث هنا مرتبط بإقامة مصانع ومعامل ومؤسسات منتجة وغيرها من الأعمال المنتظمة التي سيحتاج إليها الاقتصاد البديل. وهذه عمادها العاملون المهرة المتخصّصون في إدارة الأعمال والاختصاصات التكنولوجية والهندسة وغيرهم من التقنيين والفنيين.
الهجرة الأكثر إيلاماً هي للعاملين التقنيين والفنيين المختصّين بعلوم التكنولوجيا والمحاسبة والهندسة والخدمات


في التعريف الشامل للعمالة الماهرة، يُتّفق على أنها «الجزء من القوى العاملة التي لديها معرفة متخصّصة وتدريب وخبرة لتنفيذ مهامّ بدنية أو عقلية أكثر تعقيداً من الوظائف الروتينية. وهي تتميّز بالتعليم العالي فضلاً عن مستويات الخبرة المكتسبة من خلال التدريب والخبرة». وخلافاً للشائع، فإنّ العمالة الماهرة لا تقتصر على الأطباء والممرضين والمهندسين والمعلّمين وغيرهم من العاملين المصنّفين في المجتمع اللبناني ضمن خانة العمالة «النخبوية». صحيح أن «التفجّع» على الهجرة طاول في الدرجة الأولى النزيف في القطاع الطبي والتعليمي والعاملين في الفنادق، خصوصاً لجهة خسارة لبنان موقعه كـ«فندق» المنطقة ومستشفاها وجامعتها، إلّا أن الهجرة الموجعة الأساسية تكون في صفوف العاملين التقنيين والفنيين المختصّين بعلوم التكنولوجيا والمحاسبة والمبدعين في مجال الهندسة والخدمات وغيرها. «فقطاعا الصحة والتعليم لا يؤثران على الإنتاج وبالتالي هجرة العاملين فيهما لا تؤثر على عملية النهوض الاقتصادي بقدر تأثير هجرة العاملين المهرة في بقية القطاعات». وهنا، تُطرح تساؤلات بشأن الاستعدادات لإعادة الاعتبار إلى التعليم المهني والعمالة الفنية التي كانت البلاد تشهد نقصاً فادحاً فيها. فوفق دراسة أعدّها برنامج الأمم المتحدة الإنمائي عام 2016، كان سوق العمل يحتاج إلى عمّال متخصّصين في فنون الطهو، النجارة، التدفئة والتبريد، ميكانيك سيارات وكهرباء، ميكانيك صناعي وغيرها من المهن التقنية والفنية. وخلص مشروع «دمج الشباب في سوق العمل» الذي أعدّه البرنامج وقتها إلى أن حظوظ العمال التقنيين والفنيين أعلى من حظوظ المهن «النخبوية» (حسب النظرة المجتمعية التقليدية). هكذا، مثلاً، عانى أحد المهندسين التنفيذيين في أحد مصانع البقاع في إيجاد فنيين وتقنيين لتشغيل الآلات في مقابل «تخمة» في المهندسين، علماً أنه يحتاج إلى مهندس واحد ليشرف على 20 تقنياً وفنياً (يجب أن يكونوا حائزين شهادة مهنية BT وTS).
وإذا كان هذا الواقع سابقاً للأزمة، فإنّ هجرة المتبقّي من هؤلاء ستتزامن مع تنامي الحاجة إليهم، على ما تؤكد المديرة العامة للتعليم المهني والتقني هنادي بري، مُشيرةً إلى هجرة كثير من المهنيين «رغم حاجتنا الماسة إليهم في الوقت الراهن مع مساعي التوجه نحو اقتصاد منتج». وإذ تلفت برّي إلى ضرورة تدارك التهميش الكبير الذي كان يلحق بالتعليم المهني، تركّز على ضرورة العمل على الثقافة المجتمعية وتغيير النظرة الدونية للتعليم المهني مُشيرةً إلى «امتلاكنا الكثير من القدرات التي ينقصها التمويل».
ويشير ياسين إلى أنه من ضمن الخطوات الأساسية التي من شأنها الحد من هجرة الشباب وتوفير فرص عمل لائقة لهم داخل لبنان، تطبيق استراتيجية التعليم المهني والتقني الحالية ليكون لدى الطلاب مزيد من الخيارات في العثور على وظائف مناسبة بشكل أسرع، «كما سيزيد التعليم المهني والتقني من جودة المهارات وتنوّعها، ما سيسهّل تطوير قطاعات اقتصادية منتجة».



العمالة الجديدة محاولات يائسة للصمود
بسبب نقص فرص العمل، لجأ كثيرون إلى «تسخير» مهاراتهم بشتى الطرق لكسب الدخل. في حديث سابق لـ«الأخبار»، قالت المديرة الإقليمية للدول العربية في منظمة العمل الدولية ربا جرادات في هذا الصدد إنه من الضروري التذكير بأن معظم هذه الوظائف مجرد أعمال غير مستقرة في القطاع غير المنظّم، معتبرةً أن لجوء أشخاص يمتلكون مهارات أو تعليماً عالياً إلى أعمال منخفضة الإنتاجية أو لا تُستغل إمكاناتهم ومعارفهم بشكل كامل يعني خسارة صافية للاقتصاد والبلد. برأيها، لا يجوز وضع مهارات يتطلب اكتسابها وصقلها سنين طويلة جانباً لتأمين لقمة العيش. وأضافت: «في نهاية المطاف، يتطلب إنعاش الاقتصاد استغلال إمكانات السكان بشكل كامل، وليس أن يعمل ذوو المهارات في أعمال ضعيفة الإنتاجية وغير مستقرة في القطاع غير المنظّم. ما نشهده اليوم ليس تنويعاً للاقتصاد يمكن الاعتماد عليه لتحديد معالم الاقتصاد اللبناني الجديد بل محاولات يائسة من أشخاص يحاولون الصمود في بلد يُعدّ فيه التضخّم الشديد والبطالة تهديداً حقيقياً وخطيراً».