لندن | في ظلّ تغييب شبه تام لقضايا السياسة الخارجية، يستمرّ الحزبان الأكبر في ألمانيا («الحزب الاشتراكي الديمقراطي» - معارضة) والمجموعة الحاكمة («الاتحاد الديمقراطي المسيحي» - «الاتحاد الاجتماعي المسيحي») في محاولات متوازية لاستقطاب الأحزاب الأصغر إلى ائتلافات يمكنها عبور اختبار الثقة في البرلمان، وتشكيل حكومة جديدة بعد فشل كلٍّ منهما في الحصول على أغلبية كافية في جولة الانتخابات غير الحاسمة (26 أيلول الماضي). وفيما لا يُتوقّع انتهاء المحادثات بهذا الشأن قبل عدّة أشهر، تُواصل حكومة أنجيلا ميركل تصريف الأعمال، بينما تبدو حظوظ حزب «الخضر»، الذي حلّ ثالثاً، قويّة في فرض التزامات بيئيّة الطابع على أجندة أيّ حكومة مقبلة
تستمر المحادثات بين الأحزاب السياسية الألمانية الرئيسة، لتشكيل ائتلاف حكومي في ما بينها يمكنه عبور حاجز الأغلبية البسيطة اللازمة لنيل ثقة البرلمان (مجموع مقاعده 735). ويتنافس الحزبان الأكثر تمثيلاً، بعد جولة الانتخابات غير الحاسمة الأخيرة (26 أيلول الماضي)، وهما «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» (معارضة، يسار وسط - 206 مقاعد)، ومجموعة «الاتحاد الديمقراطي المسيحي» - «الاتحاد الاجتماعي المسيحي» الحاكمة (يمين الوسط - 196 مقعداً)، على استقطاب حزب «الخضر» (118 مقعداً) و«الديمقراطيين الأحرار» (ليبرالي يدافع عن مصالح قطاع الأعمال - 92 مقعداً)، اللّذين حازا معاً ربع مجموع الأصوات، وبشكل خاص أصوات الفئات الشابة ما دون 30 عاماً، وذلك لتشكيل تحالف ائتلافي ثُلاثي يتولّى الحكم. ومن الواضح أن ألمانيا لديها، الآن، صانعا ملوك، وفق التعبير السياسي المعروف، بدلاً من صانع واحد، أحدهما (الخضر) يدعم توجّهات لبناء سياسات خضراء صديقة للبيئة، والآخر (الأحرار) يريد حماية قطاع الأعمال، ممّا يجعل إرضاءهما معاً أمراً معقّداً، على المستوى النظري.
ورجّح تبعثُر أصوات الناخبين بين الأحزاب، احتمال بناء حكومة ائتلافية تضمّ ثلاثة لاعبين على الأقلّ، فيما البديل من ذلك، إمّا حكومة وحدة وطنية تضمّ معظم الأحزاب، أو ائتلاف يجمع الحزبَين الكبيرَين معاً، ولكن هذين الخيارَين - أقلّه في الوقت الحالي - مستبعدان. وتضاءلت فرص دخول حزب «دي لينكه» اليساري إلى السلطة، بعدما قدّم أسوأ أداء انتخابي له منذ تأسيسه، وفشل في الحصول على 5 في المئة من مجموع الأصوات اللازمة للتمثيل في البرلمان، وإن كان سيحتفظ بـ39 مقعداً، لفوزه بتمثيل ثلاث مقاطعات انتخابية. ويستبعد المطّلعون على سير المحادثات حدوث اختراق في أيّ وقت قريب، مشيرين إلى أن الأمر سيستغرق أشهراً عدّة قبل نضوج تفاهم يحسم الموقف، وإن كانت أوساط الحزبَين الكبيرين تسعى إلى ضمان وجود حكومة جديدة بحلول أعياد الميلاد في كانون الأوّل، لتمُثّل ألمانيا في قمّة الدول السبع الكبرى (G7)، التي ستُعقد بداية العام المقبل في غلاسكو في المملكة المتحدة. ومن دون ذلك، سيكون الحضور الألماني مفتقِداً للقيمة العمليّة، من خلال المستشارة العجوز أنجيلا ميركل، التي انتهت فترة تكليفها وباتت تدير حكومة تصريف أعمال، في وقت تواجه فيه المجموعة الأكثر وزناً في السياسة العالمية تحدّيات جمّة، على صعيد المستقبل.
رجّح تبعثُر أصوات الناخبين بين الأحزاب سيناريو بناء حكومة ائتلافية تضمّ ثلاثة لاعبين على الأقل


وبالنظر إلى شبه انعدام التباين الأيديولوجي بين الأحزاب الممثَّلة في البرلمان، فإن محادثات تشكيل الحكومة يغلب عليها طابع تنافس سياسيّ محلّي براغماتي، من دون اتخاذ مواقف صريحة في أيّ اتجاه، لاسيّما في ما يتعلّق بقضايا السياسة الخارجية للدولة الألمانية، والتي غابت عن الجدل العام منذ بداية الحملة الانتخابية. ولم يطرح أيٌّ من الأحزاب الرئيسة في برامجه تصوّرات في شأن مستقبل الاتحاد الأوروبي، الذي يواجه تحدّيات ما بعد «بريكست»، فيما ضعُفت اقتصاديّات دول حزامه الجنوبي. كما لم يتطرّق أيّ من الأحزاب إلى آفاق علاقة التبعيّة التامّة للولايات المتحدة - على رغم تمرّد ميركل الأخير بشأن خطّ أنابيب «نورد ستريم 2» لجلب الغاز من روسيا -، ناهيك عن صيغة التعامل مع القطبَين الصيني والروسي في المستقبلَين القريب والمتوسّط، في ظلّ التصعيد الأميركي السافر تجاه البلدين، وهي جميعها قضايا مفصليّة تتطلّب من ألمانيا لعب دور قيادي بشكل متزايد. ومن المتوقّع، في المقابل، أن تكون الحكومة الألمانية الجديدة أكثر طموحاً في شأن تَغيّر المناخ، بحكم توجّهات الناخبين بعد موسم الفيضانات القاسي خلال الصيف الأخير، وأهمّية استقطاب حزب «الخضر» للائتلاف الحكومي، مع تعهّدات بتقديم دعم إضافي لبرامج الطاقة البديلة (الرياح والطاقة الشمسية)، وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري (النفط والفحم). لكن ذلك سيخضع، بالطبع، لمساومات كثيرة قبل الوصول إلى رؤى مشتركة بشأن كيفية القيام به.
أولاف شولز، مرشّح «الحزب الاشتراكي الديمقراطي» لمنصب مستشار ألمانيا (ما يعادل رئيس الوزراء)، يقدّم نفسه، الآن، على أنه «مستشار المناخ»، ويقول إنه يعمل على تشكيل ائتلاف مع حزب «الخضر» على أساس برنامج حكومي بيئي. ويُفترض أن يشمل ذلك، إلى جانب الالتزام بهدف «قمة باريس» المتمثّل في منع تجاوُز درجة الحرارة العالمية حاجز الـ1.5 درجة مئوية، تقديم تاريخ التخلّص من الفحم (حالياً 2038)، وكيفية توسيع استخدام توربينات الهواء وألواح الطاقة الشمسية، والسياسات الضريبية المتعلّقة بالطاقة. ويريد «الخضر» فرْض حظر على بيع السيارات الجديدة التي تسير بالبنزين أو الديزل، بحلول عام 2030، لكن ذلك قد يقلّل من حظوظ النجاح في ضمّ «الديمقراطيين الأحرار» الليبراليين إلى الائتلاف، وهم الذين يريدون سياسة طويلة النفَس تعتمد على فرض ضرائب أعلى على تلك الأنواع من السيارات، مقارنةً بالسيارات الكهربائيّة، في دولة تُعتبر من أهمّ مُصنّعي السيارات في العالم.
وأيّاً كانت الصيغة النهائية للائتلاف الذي سيتولّى السلطة في ألمانيا، فإن الأكيد أن تجاهُل المواضيع الاستراتيجية وغيابها عن المحادثات، يشيران إلى استمرار هيمنة الولايات المتحدة على مفاصل صنع القرار في ألمانيا، وتقزُّم العمل السياسي في البلاد داخل إطار مسائل فرعيّة آمنة، لا تمسّ مصالح واشنطن العميقة. وفي الحقيقة، فإن هذا التقوقع حول الذات لم يَعُد مقتصراً على النخب الألمانية البرجوازية الفاعلة في مسائل السياسة والحكم، بل يمتدّ إلى القطاع الأوسع من جمهور الناخبين، الذي أصبحت أولويّاته منحصرة في تحسين الأوضاع القائمة، عبر شعارات تتعلّق بالمناخ، أو الضرائب على الكربون، أو دعم السكن الاجتماعي، أو في حدّ أقصى قضايا اللاجئين... وهي، بالطبع، كلّها حلولٌ جزئية محلّية لا قيمة فعلية لها من دون وجود نيّات سياسة دولية شاملة لمواجهة التحدّيات العابرة للحدود، والتي تتطلّب أساساً تقليم أظافر الهيمنة الأميركية. ولذلك، فإن ميركل المغادِرة - بكل سياساتها التوافقيّة الحذرة داخليّاً وخارجيّاً - ستبدو بعد أشهر كعملاق ورثته مجموعة من الأقزام قصّار الظلّ.