حصلت «الأخبار» على وثيقة تؤكّد أن مصرف لبنان يعمل على إخفاء خسائره، على الأقل منذ عام 2002. فقد اخترع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ومن دون رأي المجلس المركزي أو عرض الموضوع على مفوّض الحكومة، حساباً في موازنته أسماه «الأصول الأخرى» وسجّل فيه غالبية ما يتكبّده من خسائر، ثم قسّمه لاحقاً ليصبح حسابين (الأصول الأخرى والأصول الناتجة من عمليات تبادل الأدوات المالية). الوثيقة تشير إلى أن سلامة أراد ورقةً يتسلّح بها لقونَنة إجراء غير شرعي خارج الأصول المحاسبية. وهكذا حصل، إذ نال من مدير الشؤون القانونية في مصرف لبنان بيار كنعان، فتوى تؤكّد أنّ «الأصول الأخرى» هي خسائر أنكر تحقّقها طوال الفترات الماضية.
بند «الأصول الأخرى» هو بداية إخفاء الفجوة في مصرف لبنان(هيثم الموسوي)

في 7 تموز 2003، صدر عن مديرية الشؤون القانونية كتابٌ يحمل الرقم 2524/11 مستهلٌّ بعبارة «جواباً على سؤالكم (رياض سلامة) الشفهي، حول إمكانية استهلاك الخسائر التي أصابت مصرف لبنان نتيجة إصداره سندات بالدولار الأميركي لاستبدال جزء من محفظته من سندات الخزينة بالليرة والعملات الأجنبية فضلاً عن إصداره شهادات إيداع مصرفية لفترات واستحقاقات متتالية». ويخلص الكتاب، إلى الإجازة للحاكم بتسجيل الخسائر في حساب خاص. هذه الإجازة بنى عليها سلامة، ليفتح حساباً اسمه «الأصول الأخرى». هذا التمادي في المخالفة بدأ بتوجيه السؤال شفهياً وليس خطياً، فضلاً عن عدم «عرض الموضوع على المجلس المركزي لمصرف لبنان، أو إعلام مفوّض الحكومة به»، يقول أحد الأعضاء السابقين في المجلس المركزي. أما في المضمون، «فلا يجوز طلب رأي قانوني بما يخصّ أمر محاسبي، ولا سيما بوجود معايير عالمية للمحاسبة. إذا كان لا بُدّ من استيضاح، فالجهة الصالحة هي وحدة المحاسبة وشركتا التدقيق العالميتان اللتان يتعامل معهما مصرف لبنان. مُجرّد السؤال، يعني أنّ طريقة سلامة غير مألوفة حسابياً وتُثير علامات استفهام».
يُدير الدائرة القانونية في «المركزي»، بيار كنعان وقد أُحيل إلى التقاعد منذ سنوات، ولكنّه يستمر في رئاسة الدائرة القانونية بصيغة التعاقد. كنعان مُقرّب من الحاكم ويُطلَق عليه في مصرف لبنان لقب «الفاخوري»، لامتهانه إدارة أذن الجرّة كما يطلب سلامة. المطالعة حول «الأصول الأخرى» إحدى مآثره. فهو يستند في مطالعته، إلى المادة 70 من قانون النقد والتسليف، وتحديداً واجب مصرف لبنان الحفاظ على سلامة النقد، شارحاً كيف لجأ هذا الأخير إلى إصدار سندات بالدولار الأميركي لاستبدال جزء ممّا يحمله من سندات بالليرة والعملات الأجنبية، «إنجاحاً لمؤتمر باريس 2». ويعترف كنعان بأنّ هذه العمليات ستُكبّد مصرف لبنان خسائر، عبر قوله: «ولمّا كان الإطفاء الفوري لهذه الخسائر سيُعيق إنجاح هذه التدابير، وبالتالي سيؤثّر سلباً على النتائج المُبتغى التوصّل إليها خدمةً للمصلحة العامة. ولمّا كانت المبادئ المحاسبية التجارية غير واجبة التطبيق قانوناً بالنسبة إلى مصرف لبنان، كونه شخصاً من أشخاص القطاع العام (...) لا أرى قانوناً ما يمنع المصرف المركزي من اتّباع الأسلوب المحاسبي الذي يؤمّن هذه الغاية من دون أن يمسّ ذلك بمبدأ الشفافية وصحة القيود المحاسبية. وأرى، بالتالي، بأن لا شيء يمنع من قيد الخسائر المتراكمة الممكن أن تُصيب الأموال الخاصة لمصرف لبنان في حساب خاص يجري إطفاؤه من أرباحٍ مستقبلية».
هذه الفتوى القانونية استخدمها الحاكم لبدء إخفاء الخسائر في حساباته، ولكنّه لم يكتف بذلك، بل توسّع فيها ليحوّل الخسائر إلى «أصول».
لم يعرض سلامة إخفاء الخسائر على المجلس المركزي أو على مفوّض الحكومة


يعتبر أحد المسؤولين الماليين السابقين أنّ اجتهاد بيار كنعان «يُجيز لسلامة تحت عنوان سلامة النقد، القيام بكلّ شيء. ماذا عن مهامّه الأخرى؟ وماذا عن خسائره التي نتجت عن ممارساته التدميرية للاقتصاد؟». ولكنّ المطالعة في الوقت نفسه «تنسف أكاذيب سلامة عن أنّ ترحيل الخسائر هو إجراء محاسبي مُعتمد، وتُدعّم ما ورد في ورقة شركة «لازار» عن أنّ الخسائر بدأت تتراكم منذ ما قبل عام 2002. أما الأهم، فإنّها تكشف بداية إخفاء الفجوة في حسابات مصرف لبنان». الاعتراف بأنّ بند «الأصول الأخرى» هو خسائر مُحقّقة «يعني أنّ مطلوباته أكبر من موجوداته، ويُفترض بحسب المعايير العالمية أن يُسجّل ذلك بشكل واضح في الموازنة».
لم يقتصر الأمر على ذلك، ففي تشرين الثاني 2015، وبالتزامن مع بدء «الهندسات المالية»، اخترع سلامة بنداً جديداً سمّاه «الأصول من عمليات تبادل الأدوات المالية»، نقل إليه قرابة 12 مليار دولار من الخسائر في بند «الأصول الأخرى». في خطة التعافي المالي لحكومة حسّان دياب وشركة «لازار» للاستشارات، ورد أنّ خسائر مصرف لبنان تبلغ أكثر من 40 مليار دولار. أما بحسب آخر موازناته المنشورة لنهاية أيلول 2021، فإنّ مجموع الخسائر (بندَا «الأصول الأخرى» و«الأصول من عمليات تبادل الأدوات المالية») بلغ قرابة الـ67 مليار دولار، وفق سعر صرف 1507.5 ليرات لكلّ دولار.
خسائر مصرف لبنان تأتي نتيجة «سنواتٍ من العمليات المالية الخاسرة التي أدارها، وقد تسارع هذا التراكم في إطار الهندسات المالية التي بدأت في عام 2016 (بدأت بطريقة «غير رسمية» سنة 2015 مع إجراء عمليتين لمصلحة مصرفَي عوده وميد، قبل أن تشمل الهندسات 35 مصرفاً بين عامَي 2016 و2017)»، كما ورد في خطة التعافي المالي. في العادة، تلجأ البنوك المركزية العالمية لتأخير احتساب الخسائر، ربطاً بأرباحٍ ستُحقّقها في المستقبل، لكن في الحالة اللبنانية، تقول الخطة إنه «عَكَف على استخدام هذه الممارسة المحاسبية على مدى فترة زمنية أطول بكثير، وبات إجمالي الخسائر غير المُحققة يُمثّل جزءاً لا يُستهان به من إجمالي أصول مصرف لبنان المُبلّغ عنها، وهو مبلغ ضخم لا يُمكن مقارنته بأي حالة أخرى في العالم».
ما قام به «المركزي» هو ليس فقط حالة فريدة بين البنوك المركزية العالمية، بل حتى إنّ مصرف لبنان بإدارة سلامة، لا يعترف أساساً بوجود خسائر، ولا يُدرجها في خانة الالتزامات. فهو أصدر بياناً العام الماضي ليُبرّر بأنّه «لا خسائر لدى البنك المركزي»، وما يُحكى عنه هو العوائد الناتجة من الفرق بين كلفة طباعة العملة وقيمتها الاسمية، أي ما يُسمّى بـ«عوائد سكّ العملة - Seigniorage». وحدّد في بيانٍ آخر أنّ «التكاليف المُرحّلة هي بسبب تدخّل البنك المركزي لدعم مالية الحكومة تحت ضغط زيادات أجور موظفي القطاع العام والتداعيات الاقتصادية لتدفّق اللاجئين السوريين منذ سنة 2011».
لا يتضمّن بند «الأصول الأخرى» سوى خسائر مصرف لبنان المُحقّقة بسبب عملياته، ولكنّ سلامة يُحاول التضليل عبر إشاعة أنّه يتضمن ديوناً على الدولة، كشراء المحروقات لمصلحة كهرباء لبنان. يُخبر الوزير السابق منصور بطيش أنّ «مصرف لبنان كان يُحوّل الدولارات لشراء المحروقات، وتدفع له المالية المبلغ بالليرة اللبنانية. بعدها صار سلامة يُعطي الدولة الليرات مقابل استحواذه على سندات دين بالعملة الأجنبية (ليس مقابلها تدفّقات حقيقية)، بل عمد إلى تسييل قسم منها في السوق. ما يعني عملياً، أنّ الدولة سدّدت ديونها بالدولار». إلا أنّ سلامة عمد عن قصد إلى «تسجيل نحو 18 مليار دولار ثمن شراء محروقات لمصلحة مؤسسة الكهرباء». يستند بطيش إلى دراسة للاقتصادي توفيق كسبار أظهر فيها أنّ وزارة المالية زوّدت مصرف لبنان «بين عامَي 2009 و2019 مبالغ تصل إلى 17.5 مليار دولار. الحكومة من خلال وزارة المالية هي التي موّلت مصرف لبنان بالدولار وليس العكس». الكذبة الأولى هي إذاً أنّ خسائر مصرف لبنان ناتجة عن استدانة الدولة، ويُضيف بطيش: «الكذبة الثانية أنّ جزءاً من الخسائر ناتج من الدفاع عن العملة الوطنية. سلامة دافع عن سياسة تحفيز الاستيراد الاستهلاكي وليس المواد المفيدة للاستثمار، وزاد العجز في ميزان المدفوعات (صافي الأموال التي تخرج وتدخل إلى البلد)، وليس لحماية العملة. أما تثبيت سعر الصرف فأتى لاعتبارات خاصة بالمنظومة القائمة ومصالحها».
إعادة تفعيل الاقتصاد وإطلاق القطاعات الإنتاجية، لا تتحقّق من دون عوامل عدّة أبرزها الاعتراف بالخسائر ومعالجتها. بند «الأصول الأخرى» يُشكّل جزءاً من سياسة سلامة النقدية التدميرية للمجتمع، ومواجهة هذه الممارسات الشاذّة لا تنجح من دون أن تأتي ضمن خطة إصلاح متكاملة، يكون أحد أهم بنودها إعادة هيكلة مصرف لبنان والمصارف.



جواب خطي على سؤال شفهي
سنة 2006، أرسلت مديرية الشؤون القانونية في مصرف لبنان جواباً يحمل الرقم 5205/11 بناءً على «السؤال الشفهي» للحاكم رياض سلامة، إذا كان بإمكانه استخدام الفرق بين كلفة طباعة العملة وقيمتها لإطفاء خسائر.
ورد في المطالعة:
«لا ترى المديرية مانعاً قانونياً يحول دون إمكانية قيام مصرف لبنان باتخاذ التدابير والإجراءات المُبيّنة أدناه والمعتمد قسم كبير منها من قبل مصارف مركزية مختلفة:
- فتح فصل ضمن الموجودات تحت تسمية «أوراق نقدية جديدة مُصدرة» توازي قيمته الفارق بين كلفة طباعة الأوراق والقيمة الاسمية لها
- فتح فصل احتياطي تحت تسمية «احتياطي أوراق نقدية مُصدرة» تكون قيمته موازية للفارق بين كلفة طباعة الأوراق النقدية والقيمة الاسمية لها
- تسجيل القيمة المتراكمة للفارق ما بين الأوراق النقدية المُصدرة وكلفة طباعة هذه الأوراق في الفصلين المذكورين أعلاه
- تخفيض فصل الاحتياطي المذكور مقابل أية أعباء مالية قد يتحمّلها مصرف لبنان
ما يرد في المطالعة القانونية هو خديعة محاسبية أراد سلامة تطبيقها، عبر تسجيل الفارق بين طبع الليرة وقيمتها الاسمية في خانة الموجودات وحساب «الأصول الأخرى» واعتبارها ربحاً له، وبالتالي إطفاء خسائر بهذه المبالغ. في الجولات السابقة مع صندوق النقد الدولي، رفض ممثلوه اعتماد هذه الطريقة، وكانت إحدى النقاط الخلافية بين «الصندوق» ورياض سلامة.