هي دوّامة أميركية تقوم على سداد الدين بدين جديد. ما يهمّ فقط هو الحفاظ على الجدارة الائتمانية التي تسمح بالاستدانة بكلفة رخيصة، ليبقى النموذج الأميركي «المحسود» من باقي دول العالم قادراً على تمويل نفسه. لكن الجدل حول الدين الحكومي في أميركا يزداد حماوة عاماً بعد عام، مع تراكمه إلى حدود خطرة. وفي الآونة الأخيرة، ظهر مصطلح «المسؤولية المالية» الذي يقوم على الحدّ من تنامي هذا الدين، ليجمع حوله الكثير من الاقتصاديين على الضفّتَين، وربّما يكون هؤلاء قد أصبحوا غالبية ضاغطة. يعود ذلك أساساً إلى تزايد قوة اليسار التقدّمي داخل الحزب الديمقراطي، والذي يمثّل أبرز وجوهه برني ساندرز وألكسندريا أوكاسيا كورتيز، ويسعى إلى خفض الإنفاق على السلاح واستبداله بإنفاق على البرامج الاجتماعية مثل الصحة والتربية، وزيادة الضرائب على الأغنياء، ولكنه يتّفق مع اليمين الجمهوري على معارضة العولمة التي يؤيّدها التيار العريض في الحزب الديمقراطي، على رغم أنها تدفع نحو تشجيع التوحّش الاستهلاكي، الذي يصبّ في النتيجة في مصلحة الشركات الكبرى وأصحابها من الأثرياء.عملياً، المساران يؤديان إلى انهيارات مالية بطرق مختلفة، ليعكسا أزمة النظام الأميركي كلّه، بمعزل عن يساره ويمينه ووسطه. فالأوّل، أي مسار رفع سقف الدين (التشبيه الأقرب إليه هو افتراض أن أميركا فرد يملك بطاقة ائتمان، فإذا وافق الكونغرس والرئيس على رفع سقف الدين، يكونان قد وافقا فعلياً على رفع حدود السحب من بطاقة الائتمان هذه)، هو مجرّد شراء للوقت، ولكنه يزيد الأمور تعقيداً، من خلال مراكمة الدين وفوائده، وبالتالي يطرح مخاطر في المستقبل؛ والثاني، أي عدم رفع السقف، وبالتالي تخفيض مستويات النقد لدى وزارة الخزانة إلى حدود لا تستطيع معها سداد المستحقات ودفع الفواتير، ينذر بإطلاق انهيار للنظام المالي لم يسبق أن رأى العالم شيئاً يشبهه، ولربّما يغيّر كلّ الموازين في الاقتصاد العالمي، بما في ذلك موقع أميركا المتقدّم فيه. ولذا، يجري في كلّ مرّة التوصّل إلى تسوية بين السياسيين بعد مفاوضات غالباً ما تكون صعبة، خصوصاً إذا كان الحزبان الديمقراطي والجمهوري يتشاركان السلطة، ولا يستطيع أحدهما تمرير القوانين بمفرده. وفي كثير من الأحيان، لا تنتهي الأزمة إلّا بعد إغلاق الحكومة، أي وقف دفع الفواتير، ورواتب عشرات الملايين من الموظفين، على رغم أن هذا لا يعتبر تعثّراً، ما دام لا يشمل العجز عن سداد الديون في مواعيدها، ولاسيما سندات الخزينة التي تعتبر المصدر الأول للحكومة الأميركية للحصول على أموال من الداخل والخارج، بما فيه عدد كبير من الصناديق السيادية في العالم.
بلغ مستوى الدين الحكومي الأميركي في نهاية آب الماضي 28.43 تريليون دولار، بزيادة 1.7 تريليون عن العام السابق


يتعيّن على الكونغرس والرئاسة الخروج باتفاق بشأن رفع سقف الدين أو تعليقه قبل الأول من تشرين الأول المقبل، وإلّا سيخاطران بالتعثّر عن السداد في وقت ما من الشهر المذكور، على اعتبار أن السنة المالية تبدأ في الأول منه. وعلى رغم أن نحو أسبوع واحد يفصل عن الموعد المفترض للتوصّل إلى اتفاق، إلا أن الأسواق الأميركية التي تتفاعل عادة مع الاتفاق أو الاختلاف، ما زالت هادئة، لأن الاعتقاد السائد هو أنه سيتمّ رفع السقف أو التعليق، كون الإدارة وغرفتَي الكونغرس كلتيهما تحت سيطرة الحزب الديمقراطي، بينما كانت الخلافات بين الحزبين في السابق، على أولويات الإنفاق والقطاعات التي يتعيّن فرض ضرائب عليها أكثر من غيرها، هي التي تدفع المفاوضات حتى حافة الهاوية. وفي حينه، كان يجري إغلاق الحكومة والتوقف عن دفع الفواتير، فتتأثر الأسواق سلباً. لكن لم يجرِ في أيٍّ من تلك الحالات التوقّف عن دفع قيمة سندات الخزينة للمستثمرين. وعلى رغم أن الولايات المتحدة رفعت سقف الدين الحكومي أو علقّت العمل به نحو 80 مرّة منذ عام 1960، لكن الأزمات التي شهدها العالم في السنوات الخمس عشرة الماضية، أدّت إلى تراكم كبير للدين نتيجة ضخّ الأموال في الاقتصاد، بدءاً من أزمة الرهون العقارية التي أدت إلى انهيار مالي كبير في 2008، وليس انتهاءً بأزمة وباء «كورونا» التي يحاول الاقتصاد العالمي الخروج منها، حيث بلغ مستوى الدين الحكومي الأميركي في نهاية آب الماضي 28.43 تريليون دولار، بزيادة 1.7 تريليون عن العام السابق، وذلك نتيجة حزم التحفيز أو تخفيضات الضرائب المتعدّدة التي أقرّها الجمهوريون والديمقراطيون على السواء.
وفي مقال نشرته صحيفة «وول ستريت جورنال»، كتبت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، أن التعثّر في دفع المستحقات سيتسبّب على الأرجح بأزمة مالية تاريخية تعقّد حال الطوارئ الصحّية المستمرة، مضيفة أنه يمكن للتعثّر أن يطلق ارتفاعاً كبيراً في مستويات الفوائد، وتراجعاً حادّاً في أسعار الأسهم، واضطرابات مالية أخرى. وسيتحوّل التعافي الاقتصادي الحالي إلى ركود، مع خسارة نموّ يُقدَّر بمليارات الدولارات وملايين فرص العمل، فيما ستخرج أميركا من هذه الأزمة بوهن دائم، ذلك أن جدارتها الائتمانية المتأتّية أساساً من الالتزام بمواعيد السداد، كانت طوال قرن من الزمن ميزة رئيسة مقارنةً بمنافسيها الاقتصاديين. وبفضل هذه الجدارة الائتمانية، تستطيع الولايات المتحدة الاستدانة من الأسواق بكلفة أقلّ من أيّ دولة أخرى في العالم تقريباً، بينما سيؤدي أيّ تعثّر إلى ضرب هذا الوضع المالي «المثير للحسد»، على حدّ تعبير يلين، ويجعل من أميركا مكاناً أكثر كلفة للعيش، لأن الكلفة الأعلى للاستدانة ستقع في نهاية المطاف على المستهلكين، حيث سيصبح أيّ شيء يُشترى بالدين، أعلى كلفة بعد التعثّر، من الرهونات العقارية إلى فواتير بطاقات الائتمان وصولاً إلى قروض السيارات. وشددت يلين على أن «المسؤولية المالية» التي يسوّق لها معارضو رفع سقف الدين، يجب أن لا تجيز قطعاً استدعاء انهيار مالي كهذا، خاصة أن رفع السقف لا يسمح بإنفاق إضافي من دولارات الضرائب. والجدير ذكره، هنا، أن ثمّة سابقة لما يمكن أن يحصل في حال التعثّر عن السداد، حدثت في عام 1979، عندما فوّتت وزارة الخزانة بشكل غير مقصود دفعات سندات خزينة كانت تُستحقّ في ربيع ذلك العام، بسبب مشاكل في جهاز معالجة برنامج كانت تستخدمه الوزارة آنذاك للدفع للمستثمرين. وعلى رغم أن المستثمرين تلقّوا دفعاتهم بتأخير بسيط، إلا أن العائد على سندات الخزينة قفز 60 نقطة أساس بسبب هذه الحادثة، وظلّ مرتفعاً لأشهر بعدها، والنتيجة كانت كلفة إضافية على دافعي الضرائب بواقع عشرات مليارات الدولارات.
وكالة «موديز» للتصنيفات الائتمانية تعتقد، بحسب تقرير لها عن قضية الدين، أن دفع مستحقات الديون الحكومية في مواعيدها هو صخرة الاقتصاد الأميركي والنظام المالي العالمي، منذ أن كرّس أول وزير للخزانة في الولايات المتحدة، ألكسندر هاميلتون، هذا المبدأ عند تأسيس الولايات المتحدة، حين وافق على دفع قيمة ما يُسمّى «سندات الحرب الثورية» كاملة للمستثمرين، على رغم أن هذه السندات كانت تُتداول في الأسواق في حينه بملاليم قليلة، باعتبارها صادرة عن حكومات الولايات الـ13 أولاً بصفتها مستعمرات مستقلة، ثمّ بصفتها ولايات متمردة، لأن قلائل كانوا يعتقدون أن حكومة الاتحاد ستفي بهذه الديون. وهذا، بحسب الوكالة، ما أدى إلى بناء السلامة الائتمانية للولايات المتحدة، ومهّد الطريق ليصبح الدولار عملة الاحتياط للاقتصاد العالمي، وهو وضع يصعب حساب الفوائد الاقتصادية التي جنتها الأجيال منه. وأشارت الوكالة إلى أن التفرّج على إيصال البلاد إلى حافة الهاوية في موضوع الدين مؤلم، وإذا لم يتمكّن المشرعون من رفع سقف الدين أو تعليقه قبل أن تعجز وزارة الخزانة عن السداد، فسيكون من الصعب على الاقتصاد العالمي تحمّل الفوضى المالية الناتجة من ذلك.
لكن إلى متى يمكن لهذا النموذج الأميركي «المحسود» أن يغذي الثقة العالمية به، من خلال سداد الدين بمزيد من الدين. هل لهذه الطريق نهاية غير التعثّر عن السداد، ولو بعد حين؟