تعهّدت الحكومة الجديدة، في بيانها الوزاري، «السعي مع مجلسكم الكريم، إلى إقرار قانون حول الكابيتال كونترول». التعهد استكمله الرئيس نجيب ميقاتي، في ختام جلسة تلاوة البيان الوزاري والتصويت على الثقة، بالتمني على «المجلس النيابي الكريم إنهاء هذا الملف في أسرع وقت».لا أهمية هنا لكون القانون كان يفترض أن يصدر منذ نحو سنتين، أو لكون المجلس نفسه هو الذي لا يزال يماطل في إقراره منذ أن وصل إلى المجلس في أيار 2020، ولم يخرج منه بعد. ولا أهمية لكون ميقاتي واحداً ممن لم يشذّوا عن قاعدة حماية المصارف وكبار المودعين، بالتعاون مع الرئيس نبيه بري ورياض سلامة وحزب المصرف. في المجلس النيابي، يتأرجح المشروع بين لجنة وأخرى، وبين هيئة عامة وأمانة عامة، لتكون النتيجة نفسها: هدر مزيد من الوقت الذي يسمح لمصرف لبنان والمصارف باتخاذ الإجراءات التي تناسبها، سواء عبر تعاميم غير مقيدة بأي قانون، ولا تهدف إلا إلى حماية المصارف على حساب المودعين، أو عبر ضمان حرية المحظيين من المودعين في التصرف بأموالهم خلافاً للمودعين الآخرين.
لكن رغم ذلك، لا يزال القانون يشكل حاجة للبلد، على الأقل لإنهاء الاستنسابية، فأين أصبح المشروع؟
على ما تؤكد الأمانة العامة للمجلس، فإن «اقتراح القانون الرامي إلى وضع ضوابط مؤقتة واستثنائية على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية» صار لديها، بنسختَيه: المقرّة في لجنة المال، والمعدّلة في لجنة الإدارة والعدل.

أُنجز… لم ينجز
اللجنة الأولى أنجزت عملها في بداية حزيران الماضي، وبحسب رئيس لجنة الإدارة والعدل جورج عدوان، أنجزت الثانية عملها في 29 تموز الماضي. منذ ذلك التاريخ، لم يُحوّل القانون إلى اللجان المشتركة لتوحيد النص الصادر من اللجنتين، كما لم يتم الإعلان رسمياً عن الانتهاء من تعديل القانون في لجنة الإدارة. أدى ذلك إلى اعتبار نواب في اللجنة أن الملف دخل إليها ولم يخرج. وعند سؤال الأمانة العامة لمجلس النواب، تساهم الإجابة في زيادة الغموض: «لا مشكلة كلو ماشي». وفي هذا السياق، تؤكد مصادر معنية أن الاتجاه لدى رئاسة المجلس هو لتحويل القانون مباشرة إلى الهيئة العامة للتسريع في إقراره. لكن إذا كان المطلوب الإسراع في الإقرار فعلاً، فما سبب مرور شهرين من دون البت في مصير القانون!
مصادر نيابية تكشف أن التباين الكبير بين نصّي لجنتَي المال والإدارة والعدل كان يفرض إحالتهما إلى اللجان النيابية المشتركة لتوحيد الصياغة. أما الحديث عن الإسراع في عرض القانون على الهيئة العامة ومناقشة الاختلاف مباشرة، فتجد المصادر أن لا مبرر له طالما أن القانون موجود في المجلس منذ زمن، والوقت كان يسمح بدراسته في اللجان، قبل اكتشاف الحاجة إلى العجلة. لذلك، تتوقف المصادر أمام الضبابية التي رافقت إقرار القانون في لجنة الإدارة والعدل، لتسأل: هل حقاً أنجزت اللجنة تقريرها في نهاية تموز؟ ولماذا انتظرت حتى طرح الأمر في الإعلام لتقدمه؟ هذا أمر ينفيه رئيس اللجنة وأعضاء فيها، مؤكّدين أن اللجنة عكفت خلال تموز على درس القانون، بوتيرة ثلاث جلسات أسبوعياً، كانت نتيجتها إقرار الصيغة المعدلة. أما لماذا لم يتحرك القانون من الأمانة العامة لمجلس النواب، فلا تملك المصادر إجابة عنه.

سياسات مصرف لبنان
في المضمون، يتبين أن القانون، نصاً وأسباباً موجبة، أُخضع لتعديلات جوهرية، تصفها مصادر اللجنة بأنها تمنع دخول مجلس النواب في قضايا إجرائية مثل تحديد قيمة السحوبات، مفضّلة وضع أسس عامة. كذلك تعمدت اللجنة في الأسباب الموجبة الإضاءة على مكامن الخلل، فأضافت إليها أن الظروف المالية والاقتصادية والاجتماعية الاستثنائية التي يمر بها لبنان تعود، إضافة إلى عبء الدين العام وأسباب أخرى، إلى «سياسات مصرف لبنان النقدية والمالية وتوظيفات المصارف وإيداعاتها دون أن تأخذ في الاعتبار معايير المخاطر وتوزيعها بشكل متوازن…».
تدخل لجنة الإدارة والعدل في تفاصيل الأضرار التي سببها عدم إصدار القانون، فتشير إلى انخفاض الكتلة النقدية من 40 مليار دولار تقريباً قبل تشرين الأول 2019 إلى 15 مليار دولار اليوم، وتعتبر أن القانون كان يفترض أن يُقَر فور اندلاع الأزمة لحماية هذه الأموال من التعامل الاستنسابي مع المودعين ووضع قيود عليهم بحكم الأمر الواقع من دون أسس قانونية، لكن عدم حصول ذلك كلف البلد خسائر لا تُعوض.
ولتبيان حجم هذه الخسارة، تستعين مصادر نيابية بالتجربة المصرية، لتشير إلى أن القاهرة أنجزت خطة الاستنهاض بـ 12 مليار دولار فقط، على مدى 18 شهراً، في حين أننا في لبنان أهدرنا 25 مليار دولار من دون أي خطة وعلى دعم لم يصل إلى مستحقيه.
لكن، في المقابل، تؤكد اللجنة أن التأخير في إقرار قانون وفقدان عامل العجلة لا يلغي أهمية وضع ضوابط مؤقتة واستثنائية على التحويلات المصرفية والسحوبات النقدية الذي يبقى حاجة ضرورية لتنظيم إدارة المخزون المتبقي والذي قد يتوفر من العملات الصعبة وحسن إدارته لجهة التأثير إيجاباً في عملية الاستنهاض.
وتدخل الأسباب الموجبة في ضرورة وجود خطة تتضمن إعادة هيكلة دين الدولة وقدرتها على تسديد التزاماتها وكيفية توزيع الخسائر بين الدولة ومصرف لبنان والمصارف. كما تشير إلى أن الخطة تتطلب إعادة هيكلة مصرف لبنان وهيكلة المصارف واعتماد سعر صرف موحد للدولار تتحدد بموجبه التدابير المفروضة على المودعين. كما تنبّه إلى وجوب أن تضبط الخطة إيقاع ميزان المدفوعات من خلال تدابير لضبط الاستيراد وفرض شروط على التصدير لإعادة ضخ الأموال في الاقتصاد وتشجيع حماية الصناعة الوطنية.

التوظيفات الإلزامية بقانون
أدخلت «الإدارة والعدل» على نص القانون مصطلح «الأسعار الرائجة للدولار»، لتشير إلى أن على المصارف اعتمادها لتحديد سعر التحويل لكل عملة أجنبية، والمحدد من قبل مصرف لبنان عبر منصة التبادل الحر.
وفي تعديل أساسي على النص المقترح من لجنة المال، والذي كان يحدد حقوق السحب لأصحاب الحسابات بالدولار بـ 800 دولار مناصفة بين الدولار النقدي والليرة اللبنانية على سعر «صيرفة»، تتخلّى لجنة الإدارة عن تحديد المبالغ المسموح بسحبها، مفضّلة الاكتفاء بالإشارة إلى أنه «يحق لأصحاب الودائع بالعملة الأجنبية الحصول على سحوبات نقدية شهرية بالعملة الأجنبية، ما دامت أرصدتها المالية تسمح بذلك، ضمن سقف يحدد بقرار من المجلس المركزي لمصرف لبنان من ضمن الخطة الشاملة التي تضعها الحكومة».
النص المقترح من لجنة الإدارة يذهب أبعد من تقييد السحوبات والتحويلات ليدخل في تعديل قانون النقد والتسليف، من خلال إضافة فقرة إلى المادة 76 منه، تنص على أنه «لا يمكن للمصرف المركزي أن يخفض نسبة التوظيفات الإلزامية إلى ما دون 14 في المئة من الالتزامات تحت الطلب والالتزامات لأجل معين بالعملات الأجنبية، إلا بقانون يجيز ذلك يصدر عن المجلس النيابي».
السعي إلى عدم المس بالاحتياطي الإلزامي وإن كان يشكل مادة شعبية بالنسبة إلى كل الكتل، إلا أن الاقتراح يشرّع ما ابتدعه المصرف المركزي، أي وجود احتياطي إلزامي بالدولار، من خلال تحويله إلى قانون.
تؤكد مصادر اللجنة أن أهم ما أنجزته هو إزالة التغطية القانونية لتعاميم مصرف لبنان. كما تؤكد على وجوب ترك كل المراجعات القضائية السابقة لإصدار القانون، وعدم تغطيتها بأي نص قانوني. لكن أيّ «إنجاز»، إن تحقق في لجنة المال أو لجنة الإدارة، يبقى غير قابل للصرف، ما لم يحوّل رئيس المجلس الاقتراح إلى اللجان المشتركة أو إلى الهيئة العامة. وهو ما لا يتوقع أن يتأخر في حال رُفع الفيتو الذي تفرضه المصارف ومن يمثلها في السلطة، أو في حال وصلت السلطة إلى حائط مسدود لم تعد قادرة بعده على ابتداع الحجج لتأجيل البتّ بالقانون، الذي يشكل مطلباً رئيسياً من مطالب صندوق النقد.