طهران | مع مضيّ نحو شهر على تسلُّم الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، مهامّه الرئاسية، أظهرت تطوّرات الأيام الأخيرة، بدءاً من تصريحات المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية علي خامنئي، وصولاً إلى ما جاء على لسان الرئيس الأميركي جو بايدن، الهوة السحيقة بين البلدين، والمصير المجهول الذي تواجهه محادثات إعادة إحياء الاتفاق النووي في فيينا، إذ لم يُعلَن بعد عن موعد لاستئنافها، علماً أن الجولة السادسة والأخيرة عُقدت تزامناً مع انتخابات الرئاسة الإيرانية في حزيران الماضي، حين آثر الأطراف المتفاوضون، المضيّ قُدُماً في المحادثات، واتخاذ القرارات، على رغم مجيء إدارة جديدة في طهران. وفي دلالة على غياب أيّ أفق لاستئناف المحادثات، اتّهم خامنئي، خلال استقباله رئيسي وأعضاء حكومته، أوّل من أمس، الولايات المتحدة «بضرب المحادثات عرض الحائط»، معتبراً أنه لا فرق بين الإدارتَين الحالية والسابقة. ورأى، في هذا الإطار، أن «الحكومة الأميركية الحالية لا تختلف أبداً عن الحكومة السابقة. إن مطالب هؤلاء هي مطالب (الرئيس الأميركي السابق دونالد) ترامب ذاتها، ولم تختلف البتّة. والحقّ يُقال إن ثمة ذئباً مفترساً يقبع في كواليس السياسية الخارجية الأميركية، يتحوّل في بعض الأحيان إلى ثعلب مكار»، قائلاً: «على رغم انسحابهم من الاتفاق النووي أمام مرأى الجميع، بيدَ أنهم (الأميركيون) يتحدّثون اليوم بطريقة ويثيرون مطالب وكأنّ الجمهورية الإسلامية هي التي انسحبت من الاتفاق وتخلّت عن التزاماتها، في حين أن إيران لم تُقدِم على شيء حتّى بعد فترة طويلة من الانسحاب الأميركي». ويمكن اعتبار تصريحات المرشد الإيراني بمثابة ردٍّ على تصريحات الرئيس الأميركي، الذي طمأن رئيس الحكومة الإسرائيلية، نفتالي بينيت، في أوّل لقاء بينهما، إلى أنه «إن لم تنجح الدبلوماسية في ردع إيران عن الحصول على السلاح النووي، فإن واشنطن ستتّخذ إجراءات أخرى». وردّاً على هذه التصريحات التي تظهر تغيُّراً في نبرة إدارة بايدن تجاه إيران، اعتبر أمين المجلس الأعلى للأمن القومي، علي شمخاني، في تغريدة عبر حسابه في «تويتر»، أن «أوّل لقاء بين بينيت وبايدن والتأكيد على استخدام خيارات أخرى ضدّ إيران، يُعدّ تهديداً غير شرعي ضدّ بلد آخر، فضلاً عن أنه يرسّخ حقّ الجمهورية الإسلامية الإيرانية في الردّ المتبادل على الخيارات المتاحة».
وتشير تصريحات المسؤولين الإيرانيين والأميركيين إلى ارتفاع منسوب التوتّر بين البلدين، وعقم المسارات الدبلوماسية لإعادة إحياء الاتفاق النووي. ويبدو أن إيران، وفي ظلّ تغيُّر الحكومة واحتمال إدخال تغييرات على فريقها المفاوض، تنوي اعتماد توجّه مختلف وأكثر تشدّداً وهجومية في المحادثات الرامية إلى إعادة إحياء الاتفاق النووي. وثمة إرهاصات كثيرة تشير إلى أن الجمهورية الإسلامية تعتزم، مرّة أخرى، اعتماد سياسة كانت قد اعتمدتها قبل عام 2013؛ أي أن تجعل، من خلال تحقيق تقدُّم نووي، الطرف الآخر يدفع ثمناً. وما الإسراع ببرنامج تخصيب اليورانيوم ورفع نسبته إلى 60 في المئة، إلّا دليل على هذا التوجّه. ومن جهة أخرى، يبدو أن المسؤولين الإيرانيين توصّلوا إلى انطباع مؤدّاه أن بعض المسارات الإقليمية، بما فيها انسحاب أميركا من أفغانستان، تقوّض موقف واشنطن في المحادثات، حيث يصبح في وسع طهران الحصول على المزيد من التنازلات من الطرف الآخر، من خلال المراهنة على التطوّرات الإقليمية. على أن المسؤولين الجُدد في إيران لا يعتبرون أنفسهم من المعارضين للمحادثات من حيث المبدأ، بيدَ أنهم يريدون إدخال تعديلات على الطريقة السابقة. وتحدّث رئيس لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني، وحید جلال زاده، أوّل من أمس، عن إقامة جولة جديدة من المحادثات بين إيران ومجموعة «1+4» في إطار «منصّة جديدة»، قائلاً إن الإطار والمنصة اللتين اعتمدهما الفريق السابق، تعتريهما بعض المشكلات، موضحاً أنه «يجب إرغام الغربيين، من خلال منصّة جديدة، على الوفاء بالتزاماتهم». وفي السياق نفسه، شدّدت عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان، زهره الهيان، على أن نموذج المحادثات النووية «سيتغيّر حتماً» في ظلّ إدارة رئيسي. وليس واضحاً بعد ما هي التغييرات التي من المقرَّر أن تطرأ على الرؤية الإيرانية، وكيف سيكون ردّ فعل الأطراف الأخرى في المحادثات.
تسعى السلطات الإيرانية إلى إبراز أن «إحباط أثر ومفعول» العقوبات، أهمّ من رفعها


وكانت السلطات الإيرانية انتقدت، مراراً، واشنطن لكونها لم تكن جاهزة، في المحادثات الأخيرة، لرفع جميع العقوبات، ولكونها تريد جرّ طهران إلى محادثات «تتخطّى حدود الاتفاق النووي». وقال وزير الخارجية الإيراني الجديد، حسين أمير عبد اللهيان، خلال جلسة البرلمان لمنح الثقة لحكومة رئيسي، إنه لا «يتهرّب» من طاولة المحادثات النووية، لكنّه لا يشارك أيضاً في محادثات «صورية». كما اعتبر في اتصال مع نظيره الأوروبي، جوزيب بوريل، الجمعة، أن «المحادثات التي تفرز نتائج ملموسة وفعليّة وتكون متلازمة مع توفير حقوق ومصالح الشعب الإيراني، تُعدّ مقبولة بالنسبة إلى إيران».
من جهة أخرى، تسعى السلطات الإيرانية، في الحقبة الجديدة، إلى إبراز أن «إحباط أثر ومفعول» العقوبات، أهمّ من رفعها، وهو ما يمكن أن يكون مؤشراً إلى أن إيران تهيّئ نفسها لفترة طويلة من بقاء العقوبات على حالها. وفي هذا الإطار، قال خامنئي متوجّهاً إلى الحكومة الجديدة: «خطّطوا لمعالجة المشكلات على افتراض أن العقوبات قائمة. إن رفع العقوبات ليس بيدنا ويدكم. بل هي بيد الآخرين». ورأى النائب الأول لرئيس الجمهورية، محمد مخبر، في تصريحات أدلى بها حديثاً، أنه «لا يمكن التعويل على الخارج لتسوية مشكلات البلاد»، مستبعداً «أن نستطيع التوصّل إلى رؤية مشتركة مع نظام الهيمنة... يجب أن نخطّط بطريقة نفترض فيها أن نظام الهيمنة لن يرفع العقوبات». ويبدو جليّاً أن إدارة بايدن ستسحب سياساتها تجاه إيران، من التعويل البحت على الدبلوماسية، إلى احتمال اللجوء إلى «خيارات أخرى»، بما فيها الأعمال التخريبية المحدودة، تماشياً مع سياسة إسرائيل ضدّ البرنامج النووي، وكذلك نقل الملفّ الإيراني مجدّداً إلى أروقة مجلس الأمن الدولي للضغط على إيران في طاولة المحادثات. أما إيران، فتجهّز نفسها، من خلال التسريع في برنامجها النووي والاعتماد على نموذج «الاقتصاد المقاوم»، لفترة طويلة من المواجهة مع أميركا.