السياسات التي تبنّتها وزارة الطاقة والمياه، في السنوات الماضية، خالفت أهم المبادئ الاستراتيجية وقوانين الطبيعة، وفي مقدمها قانون الجاذبية. وبما أن منابع أهم مصادر المياه العذبة وغير الملوّثة تقع فوق ارتفاع ٨٠٠ متر عن سطح البحر، كان يفترض أن تروى غالبية المدن الساحلية بحسب قانون الجاذبية، من فوق إلى تحت، أي من دون حاجة إلى الطاقة الكهربائية لتشغيل المضخّات والمولّدات، إلا في الأماكن القليلة التي تحتاج إليها. وكان ممكناً تجهيز هذه المحطات والمضخات للعمل على الطاقة الشمسية، كما اقتُرِح عام ٢٠٠٧ على وزارة الطاقة والمياه من دون أن تأخذ به، مثلما لم تأخذ بالمقترحات الاستراتيجية التي تدمج الطاقة بالمياه وتقترح خططاً وسياسات ومشاريع قوانين لتشجيع استخدام الطاقة المتجدّدة، وإعفاء المواد الأولية التي تُصنّع منها التكنولوجيا النظيفة (كالألواح الشمسية ومراوح الهواء) من الرسوم الجمركية لتشجيع تصنيعها في لبنان وتأمين فرص عمل جديدة، والمساهمة باكراً في الانتقال إلى الطاقات النظيفة والمتجدّدة من مصادر غير ناضبة ومستدامة ورخيصة كالشمس والهواء وقوة تدفّق المياه!
(أرشيف)

كان في الإمكان تجهيز كل المحطات والمضخّات بألواح الطاقة الشمسية التي لم تكن أسعارها تتعدّى مئات الدولارات. ولو أُعطيت حماية المصادر من التلوّث والهدر والسرقة ومعالجة مياه الصرف أولوية على إنشاء السدود، لما احتجنا إلى الطاقة الكهربائية (والمولدات العاملة على المازوت) لتكرير المياه بكلفة عالية في محطات انهارت كلها اليوم بضربة واحدة مع أزمة المحروقات.
لم تأخذ وزارة الطاقة والمياه بالمقترحات الاستراتيجية الحامية لهذا المورد الحيوي من مصادره والموفّرة للمياه والمال العام، ليس عن جهل وغباء، بل عمداً، ولتبرير الحاجة إلى مزيد من الاستثمارات في المياه، ولا سيما في إنشاء السدود السطحية التي تكلف مليارات الدولارات، ناهيك عن الكلفة الضخمة لتشغيلها وصيانتها.
في تقرير أصدرته قبل أيام، أشارت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) إلى الحاجة لـ 40 مليون دولار سنوياً للحفاظ على تدفّق المياه عبر شبكة المياه العامة إلى أكثر من أربعة ملايين شخص، ولتشغيل مرافق المياه العامة من خلال تأمين الحد الأدنى من كلفة المحروقات، وتوفير الكلور لتعقيم المياه، وتأمين قطع الغيار والصيانة اللازمة للحفاظ على سير عمل أنظمة المياه الحيوية وضمان الوصول بشكل آمن لتشغيل منظومات المياه العامة. ولو تمّ اعتماد السياسات المذكورة أعلاه لكانت أضعاف هذه المبالغ احتُسبت ضمن المداخيل وليس مصاريف التشغيل، ولكانت أوصلت المياه الصالحة للشرب إلى الناس بشكل كافٍ وآمن… ولما كان القطاع قد تأثر كثيراً بالأزمة الأخيرة.
أسعار المياه المعبّأة سترتفع مطلع أيلول ٤ أضعاف عما كانت عليه قبل الأزمة


لم نكن بحاجة إلى تقرير منظمة «يونيسف» الذي أشار إلى أن «أكثر من أربعة ملايين شخص، من بينهم مليون لاجئ، يتعرضون لخطر فقدان إمكانية الحصول على المياه الصالحة للشرب في لبنان»، والذي ربط الأمر بالتفاقم السريع للأزمة الاقتصادية ونقص التمويل وعدم توافر المحروقات وإمدادات أساسية مطلوبة مثل الكلور وقطع الغيار، مرجّحاً أن «غالبية محطات ضخّ المياه ستتوقف تدريجياً في مختلف أنحاء البلاد».
ليست المشكلة في الاستثمارات الخاطئة في المياه في الفترة السابقة، لا بل إن حالة الانهيار الشاملة وسوء الإدارة المزمن لهذا المورد الحيوي، سهّلت على المستثمرين في الأزمة تحقيق أرباح خيالية على حساب الطبيعة والمواطن. فقد نشطت السرقة من المياه الاستراتيجية من باطن الأرض ومن الشبكات، وتضاعفت كلفة المياه البديلة عن الشبكات بشكل خيالي. وفي آخر إشعار بالرسائل السريعة تبلّغه المشتركون بالمياه المعبّأة أمس، أن أسعار المياه المعبّأة في قنانٍ أو عبوات سترتفع مطلع أيلول ٤ أضعاف عما كانت عليه قبل الأزمة! وهذه أيضاً ضريبة سوء الإدارة التاريخية لهذا المورد، إذ كان يمكن تأمين وصول المياه الصالحة للشرب إلى كل منزل، لو غيّرت الإدارات المعنية مبادئها وأولوياتها في إدارة هذا القطاع، ولا سيما مبادئ الحماية (حماية المصادر من الاعتداءات والتلوّث) ووقف الهدر في الشبكات ووقف السرقة على أنواعها (بعد إعادة النظر في القوانين التي حافظت على ما يسمى «الحقوق المكتسبة على المياه»)، والعدالة في التوزيع، ومنح الأولوية لمعالجة مياه الصرف وإعادة استخدامها ولا سيما في قطاعَي الصناعة والسياحة وقسم من قطاع الزراعة … بدل إنشاء السدود السطحية المكلفة.
مع هذه الأزمة وحالة الفوضى التي تضرب كل القطاعات، وفي ظل انحلال الدولة على كل المستويات لمصلحة مافيات التعبئة والتوزيع على أنواعها، من المرجّح أن تزداد عمليات السرقة والاعتداء على الإمدادات كافة، وزيادة الهدر في الشبكات إلى أكثر من ٦٠ في المئة من المياه (بعد أن كانت ٤٠ في المئة قبل الأزمة)، ولا سيما بعد إقدام البعض على الكسر المتعمّد للشبكات والعيارات للحصول على المياه بهدف التجارة والربح. مع الإشارة إلى أن تدهور نوعية المياه أو قلّتها يساهم عادة في نقص النظافة ويهدد الصحة العامة. كما يفترض التنبه إلى كثرة السحب من الآبار القريبة من الساحل، والوصول إلى المياه المالحة وتوزيعها في ظل هذه الفوضى إلى المستهلكين، ما سيترك آثاراً سلبية إضافية على كل أنظمة النظافة والصحة، بالإضافة إلى ضرب النُّظم الإيكولوجية.
لا تنحصر العلاقة بين قطاعَي الطاقة والمياه في هذه الجوانب بالطبع، إنما هذا ما يتم رصده بشكل كبير في الأزمات وإدارتها ومدى تأثيرها المباشر على السلامة العامة، إذ كان يُفترض أن تُرصَد علاقة الطاقة والمياه في القطاعات كافة، ولا سيما بالقطاع الزراعي الذي يُعتبر المستهلك الأكبر للمياه، وقد استفاد الكثير من المزارعين من استخدام الألواح الشمسية لتشغيل مضخّات الري. كما استفاد الكثير من الصناعيين بمبادرات فردية من الطاقة الشمسية ومن إعادة استخدام المياه العادمة، إضافة إلى بعض المحاولات الخجولة في القطاع السياحي التقليدي، ولا سيما في قطاعَي الفنادق والمنتجعات البحرية التي كان يمكن أن تكون لها مشاريع مشابهة موفّرة في الطاقة والمياه العذبة. وحدها الدولة فشلت في الاستفادة من التطورات التكنولوجية المستدامة والأكثر محافظة على الطاقة والمياه. فهل ستقدم هذه الأزمة البرهان على هذه الخيارات الموفّرة والفرصة للتغيير في الاستراتيجيات والسياسات؟ وهل سيتم دمج قطاعَي الطاقة والمياه مع قطاع إدارة الغابات والأحراج، مع ما لهذا الموضوع من تأثير مباشر ومتبادل، إذ أن الأشجار تستجلب المطر، وجذورها تمنع انجراف التربة، والتربة تساهم في حفظ المياه (مياه الثلوج والمتساقطات) وتنقيتها لتصل إلى الأحواض والخزّانات الجوفية، حيث تُحفظ (من التلوّث والتبخّر) باردة ونقية ومعدنية وتتفجّر في ينابيع... منها يجب أن نشرب، لو أحسنت الإدارات المعنية نقلها وإيصالها إلى «حنفية» كل منزل بواسطة الجاذبية.