خفتت «رهجة» تعيين رئيس حكومة جديد، لتحلّ مكانها الواقعية السياسية. حتى رئيس الحكومة المُكلّف نجيب ميقاتي، الذي سبق أن أعلن أنه حصل من عواصم القرار «التعطيلية» على ضمانات، لم يعد مُتمسكاً بإنجاز التشكيلة في غضون أسبوعين كحدّ أقصى، مُستبعداً الانتهاء منها قبل يوم 4 آب. في الباطن يوجد الكثير من العقبات والخلافات، الموروثة منذ أيام تكليف سعد الحريري، ومبنية على تجربة سيئة من الحُكم بين فريق العهد والرئيس المُكلّف، تمنع بناء الثقة سريعاً بينهما وتُفرمل أي اندفاعة للانتهاء سريعاً من تشكيل الحكومة. تختفي هذه الحقيقة خلف الشكليات. ففي الظاهر، يوحي التعامل بين عون وميقاتي، ومن خلفهما رئيس التيار الوطني الحرّ جبران باسيل، بأنّ مسار التشكيل إيجابي، ولن تكون هناك شروطٌ تمنع التأليف. ولكن عملياً «لا يزالان في مرحلة التذاكي، أحدهما على الآخر»، يقول مسؤولون سياسيون، مُضيفين بأنّه «ما زلنا نحتاج إلى أيام حتى يظهر المسار الذي على أساسه تسير المشاورات، يعني وجود نيّة وجدية بالانتهاء من الحكومة، أو المزيد من إهدار الوقت». والأهم من الاختلافات حول طريقة توزيع المقاعد الوزارية وتقسيمها على القوى، هو في «أن يحسم فريقا العهد والرئيس المُكلّف قواعد تشكيل الحكومة وتوزيع المسؤوليات بينهما».
يُنقل عن ميقاتي قوله إنّ باسيل ربما يريد تعطيل التأليف (هيثم الموسوي)

المرحلة الأولى من بعد تسمية ميقاتي انتهت، وهي تبادل الأوراق بينه وبين رئيس الجمهورية حول توزيع المقاعد الوزارية. أُقفلت هذه الصفحة على خلاف يتعلّق بوزارتَي الداخلية والعدل، أقلّه هذه المُشكلة العلنية. يوم الاثنين مُفترض أن يبدأ التشاور بالأسماء وتوزيعها على الحقائب. وينقل الذين يتواصلون مع ميقاتي عنه وجود «إشارات إيجابية، ولكنّ حقيبتَي الداخلية والعدل ستكونان محلّ نقاش ووساطات»، مع الحديث عن دور قد يقوم به كلّ من رئيس مجلس النواب نبيه برّي وحزب الله في هذا الإطار. والأرجح أن يتمّ تأجيل الحسم بما يخصهما إلى ما بعد إنجاز التركيبة الحكومية. وبحسب التصوّر الأولي، سيتم تقسيم الـ 24 حقيبة على الطوائف وفق: 5 لكلّ من الموارنة والشيعة والسنّة، 3 للأرثوذكس، 2 لكلّ من الكاثوليك والدروز، حقيبة للأقليات وحقيبة للأرمن. ثنائي حزب الله ــــ حركة أمل اتفق على تسمية أربعة وزراء، إضافة إلى الوزير الخامس، وهو يوسف خليل لوزارة المالية. خليل هو مدير العمليات المالية في مصرف لبنان، وكان من أبرز العاملين على الهندسات المالية في الـ 2016، التي زادت أرباح المصارف الخاصة بـ 5.6 مليارات دولار في سنة واحدة. ويجري التفاهم بين حزب الله وحركة أمل على اسم لتولي حقيبة مثل الزراعة أو البيئة أو الثقافة، مع استعداد «الحزب» لمقايضة وزارة الصحة بحقيبة خدماتية مثل الأشغال أو الطاقة أو الاتصالات. من جانبه، اتفق ميقاتي مع رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي، وليد جنبلاط على اسم الوزير الذي سيطرحه، على أن يكون الوزير الدرزي الثاني من حصّة النائب طلال أرسلان بموافقة الوزير السابق وئام وهاب. أما الحريري، فالمعلومات تُشير إلى اتفاق بينه وبين ميقاتي على الحصة التي سيحصل عليها وكيفية توزّع الوزراء بين بيروت والمناطق. هذه المعطيات، تدفع من يتواصل مع ميقاتي إلى نقل «تفاؤله»، واعتباره أنّ التشكيلة «كاملة ستكون جاهزة قبل نهاية الأسبوع المقبل»... مُحافظاً على حذره من باسيل. وقد نقل حلفاء الرئيس ميشال عون إليه قول ميقاتي إنّ «باسيل قد يكون يريد تعطيل المهمة». ردّ الرئيس بأنّه «جدّي بتشكيل الحكومة ودورها الأول ــــ بالنسبة إليّ ــــ هو إجراء التدقيق الجنائي في حسابات مصرف لبنان. وأنا أضمن أنّه سيتم متابعة التحقيق في جريمة المرفأ من دون تدخلات جانبية، وستكون الحكومة قادرة على اتخاذ خطوات تحدّ من الأزمة الاقتصادية والاجتماعية. ولا أمانع في أي تركيبة من شأنها تسهيل التواصل مع العرب والأجانب». وأضاف عون بأنّه يُريد «حكومة موثوقة من الجميع»، ويطلب تعيين أشخاص «جدّيين وموثوقين». لكنّ عون أبدى خشية من حصول مناورات، «بعد سماعه ميقاتي يُعلن التزامه موقف الحريري، بينما يُظهر الكثير من الودّ خلال الاجتماعات الثنائية بينهما». وفسّر عون كلام ميقاتي عن التزامه بموقف الحريري بأنه «نوع من التهديد».
في ما خصّ المداورة في الحقائب، لا يُمانع عون ذلك «لكنّه يقبل بتوافق بين الطوائف على ست حقائب، هي: الخارجية والداخلية والدفاع والمالية، إضافةً إلى الطاقة والعدل». رئيس الجمهورية يطلب الحصول على الداخلية، «من دون التمسك بأن يكون الوزير مارونياً، كأن يُختار من الطائفة الأرثوذكسية ويُعيّن أيضاً نائباً لرئيس الحكومة، مع استعداده للتشاور في اسم شخصية لا تستفز أحداً وتكون محايدة». في المقابل، لا يُمانع عون «تعيين أحد أبناء الطائفة السنية لوزارة العدل». ويعتبر عون أنّ «استعداده الكبير للتعاون لا يعني قبول إحراجه بقصد إظهاره منكسراً. لذلك مقابل تثبيت المالية لبرّي، يريد حقيبة الداخلية».
عون: دور الحكومة إجراء التدقيق الجنائي قبل أيّ أمر آخر


الأخذ والردّ في الملف الحكومي، كما لو أنّ ما من استحقاقات داهمة تستدعي الانتهاء سريعاً من التشكيل، سيكون لهما انعكاسات خطيرة على يوميات السكان، تُضاف إلى الأزمات التي يعيشونها يومياً. والفراغ على المستوى الحكومي، وغياب من يتخذ أي قرار مُجتمعي، يعني سيطرة المُحتكرين والمصارف ومصرف لبنان ومجموعة قليلة من المنتفعين على الموارد الأساسية. واحد من الأمثلة، هو البيان الذي أصدره مصرف لبنان أمس ويُعلن فيه تنصّله من أزمة انقطاع المازوت من السوق. فأعلن أنّه «باع خلال شهر تموز 708 ملايين دولار لاستيراد البنزين والمازوت. و120 مليون دولار لاستيراد الفيول لكهرباء لبنان»، مُتهماً التجار بتهريب المادة أو تخزينها للبيع في السوق السوداء. هذا البيان من حاكم مصرف لبنان هدفه الوحيد تبرئة ذمته من فقدان مادة المازوت، وبأنّ تأخيره فتح اعتمادات للشركات ليس هو المشكلة. المازوت موجود في السوق، لكنّ كارتيل الاستيراد يمنعه عن المستشفيات والمحالّ الغذائية والمنازل والمؤسسات الرسمية، مُتعمّداً تهديد أمن السكان الغذائي والاستشفائي، طمعاً بالمزيد من الأرباح.

العقوبات الأوروبية
على صعيد آخر، أعلن الاتحاد الأوروبي أمس أنّه أقر إطاراً قانونياً ينصّ على إمكانية فرض عقوبات على الأشخاص والكيانات المسؤولين عن «تقويض الديموقراطية أو سيادة القانون في لبنان من خلال أي من الإجراءات الآتية:
ــــ عرقلة أو تقويض العملية السياسية الديموقراطية من خلال الاستمرار في إعاقة تشكيل الحكومة أو عرقلة إجراء الانتخابات أو تقويضها بشكل خطير؛
ــــ عرقلة أو تقويض تنفيذ الخطط التي وافقت عليها السلطات اللبنانية وبدعم من الجهات الفاعلة الدولية ذات الصلة، بما في ذلك الاتحاد الأوروبي، لتحسين المساءلة والحوكمة الرشيدة في القطاع العام أو تنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المهمة، بما في ذلك في القطاعين المصرفي والمالي واعتماد تشريعات شفافة وغير تمييزية بشأن تصدير رأس المال؛
ــــ سوء السلوك المالي الجسيم في ما يتعلق بالأموال العامة، طالما أن الأفعال المعنية مشمولة باتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، والتصدير غير المصرح به لرأس المال».
ما سُمّي بالإطار القانوني هو عملياً «تسوية» توصّلت إليها فرنسا بعدما فشلت في انتزاع إجماع على فرض عقوبات سياسية، بسبب الفيتو الذي وضعته دول مثل المجر وإيطاليا. ويبقى «الإطار» خطوة هدفها التهديد بالعقوبات أكثر من فرض العقوبات نفسها، لأنّ فرض عقوبات من الاتحاد الأوروبي على مسؤولين لبنانيين لا يزال بحاجة إلى اجتماع وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي، وصدورها بالإجماع.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا