لندن | شبّه الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، ما يجري في كوبا بـ»النموذج» الذي يُستخدَم لزعزعة استقرار بلاده، عبر تشديد الحصار المالي والاقتصادي والإعلامي، ودفْع جهات داخلية مشبوهة إلى استغلال الكوارث التي تنشأ على هامش ذلك الحصار لتوجيه غضب المواطنين نحو حكوماتهم، بدلاً من لَوْم المُسبِّب، أي الولايات المتحدة. تشبيهٌ جاء على إثر نزول مجموعات من المتظاهرين في كوبا، للاحتجاج على تردّي الأوضاع المعيشية في البلاد، فيما حمَل بعضها أعلاماً أميركية، هاتفاً لإسقاط النظام الشيوعي، في ظاهرة غير مسبوقة في تاريخ الجمهورية التي تخضع لعدوان أميركي متواصل منذ ما يزيد على 60 عاماً
نزلت، الأحد، مجموعات من المتظاهرين إلى الشوارع في العاصمة الكوبية، هافانا، وعدد من المناطق الأخرى، احتجاجاً على تردّي الأوضاع المعيشية، وتراجع قدرة الدولة على مكافحة وباء «كورونا»، فضلاً عن انقطاع بعض الإمدادات الأساسية. وبينما يبدو طبيعياً، بعد 62 عاماً من الحصار الذي جرى تشديده في عهد الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب، تصاعُد مشاعر الإحباط لدى المواطنين الكوبيين الفقراء، إلّا أن احتجاجات نهاية الأسبوع بدت خارج السياقات المعتادة، وسط لجوء بعض المحتجّين إلى حمْل أعلام أميركية، هاتفين لإسقاط النظام الشيوعي؛ فسارعت وسائل الإعلام الغربية إلى تضخيم أعدادهم، ونسْبِ المصاعب الاقتصادية إلى السلطات المحلية، في ظلّ التعمية على الحصار الأميركي.
مشاهدُ بدت مستلّة من تقنيّات كرَّرت أجهزة الاستخبارات الأميركية توظيفها في غير بلد، في سياق استهدافها للأنظمة التي لا توافِق مزاج الطغمة الحاكمة في واشنطن، وهو ما عبّر عنه الرئيس الفنزويلي، نيكولاس مادورو، لدى إعلانه دعمَ وتضامنَ بلاده مع كوبا، واصفاً محاولة إثارة اضطرابات فيها بأنها تشبه «النموذج الذي يُستخدم في محاولة زعزعة استقرار فنزويلا منذ سنوات: تشديد الحصار المالي والاقتصادي والإعلامي، ودفع جهات داخلية مشبوهة إلى استغلال الكوارث التي تترتّب على ذلك لتوجيه غضب المواطنين نحو حكوماتهم الوطنية، بدلاً من لوم نظام الولايات المتحدة القاتل». ومع هذا، اختار الرئيس الكوبي، ميغيل دياز كانيل، السفر إلى سان أنطونيو دي لوس بانيوس، موقع التظاهرة الأكبر، حيث تحدّث إلى الناس في المنطقة واستمع إلى شكاويهم، فيما تدفّق مئات الآلاف من المتظاهرين المؤيدين لـ»الحزب الشيوعي» الحاكم إلى شوارع العاصمة، وغيرها من المدن، للإعراب عن تأييدهم لحكومتهم، وتمسّكهم بثوابت ثورتهم، هاتفين بالولاء لفيديل كاسترو، وبالموت لأميركا. ونُقِل عن الرئيس الكوبي وصفه الاحتجاجات لاحقاً بأنها «مضادة للثورة الكوبية، يديرها مرتزقة تشغّلهم الولايات المتحدة، ويحصلون على أموال منها من أجل تخريب البلاد وزعزعة الاستقرار».
يقول مراقبون إن النظام الكوبي ليس هشّاً، ولا يزال يحظى بتأييد غالبيّة مواطنيه


وشهدت كوبا، في الآونة الاخيرة، تضاعفاً في حالات الإصابة بفيروس «كورونا»، وسط تفشّي الوباء في بعض البؤر على نحو أدّى إلى استنزاف القدرة الاستيعابية للمستشفيات ومراكز العزل إلى الحدود القصوى. وعمدت حكومة هافانا إلى تعزيز فرقها الطبية، ونشرت أعداداً إضافية من الطواقم في المناطق الأكثر تأثُّراً. وعلى رغم أن كوبا تُعدّ من الدول القليلة في العالم التي نجحت في إنتاج لقاح مضاد للفيروس، إلّا أن النقص الشديد في المواد الخام والإبر والمعدّات الطبية وأجهزة التنفس وأقنعة الوقاية وأدوات الفحص نتيجة الحصار الدولي المشدَّد الذي تفرضه الولايات المتحدة ضدّ شعبها، يوهن من فرص الاستفادة من توفُّر اللقاح محلياً. ومع ذلك، لا تزال أعداد الحالات والوفيات أقلّ بكثير من مثيلاتها في معظم بلدان المنطقة الأخرى، بما فيها الولايات المتحدة نفسها، حيث بلغ معدّل الوفيات حتى تموز الحالي، 1870 حالة وفاة لكل مليون نسمة، مقارنة بمعدل 139 حالة في كوبا، حيث يعيش أقلّ من 12 مليون نسمة.
وتأتي هذه المصاعب التي يواجهها القطاع الصحي، في وقت تمرّ فيه الجزيرة بأزمةٍ اقتصادية هي الأشدّ منذ أكثر من ثلاثين عاماً، إذ تفوق في تأثيراتها مرحلةَ سقوط الاتحاد السوفياتي مطلع التسعينيات، والذي كان، في حينه، الشريك التجاري الرئيس ومصدر الدعم لكوبا. وقد شدّدت إدارة ترامب الحصار الأميركي المستمرّ بلا توقف منذ أكثر من 60 عاماً، على الدولة الكاريبية، عبر فرض 243 عقوبة إضافية أدّت إلى نقص خطير في الأغذية والأدوية والوقود، وذلك قبل ظهور الوباء. كما أن معظم المصارف في العالم ترفض تحويل الأموال إلى كوبا خوفاً من العقوبات الأميركية، وهو ما جعل من المستحيل - عملياً - على الكوبيين الذين يعيشون في الخارج مدَّ يد المساعدة إلى أفراد أسرهم في الجزيرة، في وقتٍ تنفق فيه واشنطن ملايين الدولارات سنوياً على برامج معادية لكوبا تحت مسمى «تعزيز الديمقراطية»، وتموّل جماعات وأفراداً يعملون بالخفاء وتحت عناوين منظمات مجتمع مدني لبناء معارضة تستهدف إسقاط الدولة الكوبية. وفي ظلّ الوباء، فقدت كوبا أيضاً دخلاً حيوياً من السياحة الدولية، التي انخفضت بنسبة 94% في الأشهر الأربعة الأولى من العام الجاري.
ويتسبّب النقص المتزايد في إمدادات الوقود بانقطاع التيار الكهربائي، ما يعني أن أجهزة التكييف والتبريد لا تعمل في أوقات ذروة صيف كوبا الحارّ. ويقول زوّار العاصمة هافانا، إن هناك طوابير طويلة للحصول على الغذاء والدواء والسلع الأساسية، التي تتوفّر بكميات محدودة، وتنفد سريعاً. وقد لوحظ اصطفاف بارز للسياسيين والجماعات اليمينية ومختلف أجهزة الإعلام في الولايات المتحدة في جوقة موحّدة تدعو إلى تغيير النظام في كوبا، حتى إن بعضهم تجرّأ على المطالبة بتوفير ما سمّوه «ممراً آمناً» لإغاثة الكوبيين. وأجرت تلفزيونات ومواقع عديدة مقابلات مع مَن سمَّتهم معارضين وناشطين كوبيين (من المقيمين في الخارج)، قالوا إن مشكلة كوبا هي حصراً في نظامها الشيوعي، وإن المحتجين كانوا يريدون الحرية ويهتفون لإسقاط النظام، بينما تجاهل هؤلاء تأثيرات الحصار القاسية التي كلّفت كوبا، حتى الآن، ما يزيد على 750 مليار دولار من الإيرادات المفقودة. وكانت الجمعية العامة للأمم المتحدة قد صوّتت، في 23 حزيران الماضي، لإنهاء الحصار الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة ضدّ الجزيرة بأغلبية 184 صوتاً، في مقابل صوتين (الولايات المتحدة وإسرائيل، فيما كانت دولة الإمارات إحدى الدول الثلاث التي امتنعت عن التصويت). لكن لهذا التصويت قيمته الرمزية، فيما تمتلك الولايات المتحدة حق النّقض «الفيتو» ضدّ أيّ مشروع قرار قد يُطرح على مجلس الأمن في هذا الشأن.
في هافانا، يقول مراقبون إن النظام الكوبي ليس هشّاً، ولا يزال يحظى بتأييد غالبيّة مواطنيه، لكن لا شكّ في أن الأوضاع الاقتصادية قاسية جداً، وتعاظمت نتيجة تقاطع مفاعيل الحصار مع التأثيرات السلبية للجائحة، وهو ما تستغله الولايات المتحدة الآن في محاولة لتحقيق ما فشلت عن إنجازه منذ غزو خليج الخنازير عام 1960.