اجتمعت القوى الدولية والإقليمية المعنيّة بالشأن الليبي في "مؤتمر برلين الثاني" (23 حزيران)، لمناقشة المسار المستقبلي لهذا البلد، بعد مضيّ عشرة أعوام على تدخّل "الناتو" وإسقاط نظام معمر القذافي، وبعد ثمانية أشهر من اتفاق الفصائل المتصارعة على وقف لإطلاق النار. وفي مؤشّر إلى أهمية مسار "برلين 2"، شهد المؤتمر حضور الدول الخمس الأعضاء في مجلس الأمن الدولي، إلى جانب عدد من الدول المعنيّة، في مقدّمتها مصر وإيطاليا وتركيا والإمارات، ليتمّ التركيز على الخطوات المقبلة في المرحلة الانتقالية، وأبرزها انتخابات كانون الأول 2021، وإخراج المقاتلين الأجانب الذين تُقدّرهم الأمم المتحدة بعشرين ألف عنصر من سوريا وروسيا والسودان وتشاد. وعلى رغم مضيّ نحو عام ونصف عام على انطلاق "مؤتمر برلين الأول" (كانون الثاني 2020)، والتغيّرات الكثيرة في ليبيا، فإنه لا تزال هناك مسألتان لم تُحسما بشكل واضح بعد، وهما فرض حظر على تصدير السلاح إلى أطراف النزاع، وسحب القوات الأجنبية والمرتزقة. كما أن التفاعلات الداخلية والإقليمية والدولية لا تزال بالغة التعقيد والتشابك، من دون وضع مصالح الشعب الليبي في مكانتها الصحيحة المفترضة.
فُرص فَرض حظر السلاح
من بين العوامل المُعزّزة لفُرص نجاح حظر صادرات السلاح إلى ليبيا، التغيّر الدراماتيكي في دور الإمارات - العضو غير الدائم في مجلس الأمن الدولي للعامين المقبلين - على خلفية انكشاف أجنداتها الخاصة في النزاع (وفق تقارير رسمية صادرة عن مراقبين في الأمم المتحدة)، بالمخالفة لمصالح دول "حليفة" أو حتى لمصالح الشعب الليبي نفسه، عبر دعم مواقف متشدّدة لخليفة حفتر قبل أكثر من عامين، خلال توجّه الأخير إلى "تحرير" العاصمة الليبية طرابلس (نيسان 2019). ويتّضح من مقررات "برلين 2" أن ثمّة اهتماماً معقولاً بمسألة حظر السلاح (وردت في شأنه خمسة بنود في خلاصات المؤتمر الثماني والخمسين، ولم يُخصَّص له عنوان رئيس مستقلّ)، وتشديداً على التزام جميع الفاعلين بعقوبات مجلس الأمن ضدّ منتهكي القرارات ذات الصلة. إذ نَصّ البند 36 على دعوة جميع الفاعلين إلى النأي عن "أيّ أنشطة تُفاقم من الصراع أو لا تتّسق مع حظر السلاح أو اتفاق 23 أكتوبر لوقف إطلاق النار، بما في ذلك تمويل القدرات العسكرية أو تجنيد مقاتلين ومرتزقة أجانب".
أمّا تركيا، التي أقدمت على انتهاكات صريحة للحظر، ووفّرت معدّات ومرتزقة بحجّة مواجهة قوات حفتر (استمرّت انتهاكاتها بعد مؤتمر برلين 1 وحتى وقت قريب حسب تقارير إعلامية ليبية)، فإنها تواجه "أزمة قانونية"، حيث تدّعي أن وجود قواتها في ليبيا كان بناءً على "دعوة" من حكومة فايز السراج، وأن هذا الاتفاق لا يجعلها ملزَمة قانوناً أو معنوياً بمغادرة ليبيا، على رغم أن وزيرة الخارجية الليبية، نجلاء المنقوش، دعت، في أكثر من مناسبة، "جميع القوات الأجنبية" إلى مغادرة البلاد. وعلى رغم وثاقة الصلة بين طرابلس وأنقرة (والتي تتّضح في ارتفاع حجم الصادرات التركية إلى ليبيا في الشهور الأربعة الأولى من العام الجاري بنسبة 50%)، فإن خيارات حكومة عبد الحميد الدبيبة وتوازناتها (ولا سيما مع مصر) ستقود إلى تغيير معادلة الوجود التركي العسكري المخالف لقرارات مجلس الأمن وخلاصات مؤتمر "برلين 2".

المرتزقة وتوازنات الداخل
كانت مسألة الأمن من العناوين الرئيسة لـ"برلين 2"، الذي دعمت مقرّراته (النقطة 24) "اتفاق 23 أكتوبر الداعي إلى انسحاب جميع المرتزقة والمقاتلين الأجانب من ليبيا"، ووجّهت الدعوة إلى جميع الأطراف الليبية لضمان تطبيقها الكامل "من دون أيّ تأخيرات أخرى"، وحثّت جميع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة على احترام ودعم التطبيق الكامل لاتفاق وقف إطلاق النار. من جهتها، جدّدت الحكومة الليبية، خلال المؤتمر، التزامها بعقد الانتخابات في موعدها، بالتزامن مع تصريحات ألمانية مهمّة عن مواصلة برلين ضغوطها حتى يتمّ انسحاب جميع القوات الأجنبية من ليبيا. كما استبقت مخرجاتِ المؤتمر تقاريرُ عن اتفاق روسي- تركي على البدء التدريجي في سحب قوّات الطرفين من ليبيا. لكن مخرجات المؤتمر افتقرت إلى تحديد إجراءات جديدة وواضحة ضدّ المتقاعسين، ما يرهن العملية برمّتها – إلى حدّ كبير - بقرارات الدول التي استقدمت المرتزقة إلى داخل ليبيا، وكذا استمرار حالة الاستقطاب الداخلي حول هؤلاء.
يظلّ عدد المرتزقة الكبير وتوزّعهم على خطوط التماس الرئيسة تحدّياً كبيراً أمام حكومة الدبيبة


في المقابل، فإن خليفة حفتر، الذي تآكلت مكانته بشكل واضح حتى لدى أطراف إقليمية عوّلت عليه طويلاً، سيواجه تهديدات انفتاح حكومة الدبيبة المرتقب على ملفّ "توحيد المؤسسة العسكرية الليبية"، بتنسيق تقليدي، وربّما بزخم أكبر، مع القاهرة. ولم تبقَ أمام حفتر سوى ورقة وحيدة هي "مواجهة الجماعات التكفيرية"، حيث استَبق مؤتمر "برلين 2" بإعلانه (في 17 حزيران الجاري، وقبيل ساعات من اجتماع مدير المخابرات المصري عباس كامل معه للتوسّط بينه وبين الدبيبة بحسب بيانات إعلامية) بدء عملية عسكرية في جنوبي ليبيا لملاحقة "الإرهابيين التكفيريين"، بقيادة ما وصفتها قواته بـ"غرفة عمليات تحرير الجنوب الغربي". وهو ما يمكن وضعه في سياق سلوك حفتر التقليدي، القائم على تعزيز قدرته التفاوضية عبر عمليات عسكرية غير محسوبة العواقب.
لكن يظلّ عدد المرتزقة الكبير (الذي يتجاوز 20 ألف عنصر)، وتوزّعهم على خطوط التماس الرئيسة بين الفاعلين الليبيين، تحدّياً كبيراً أمام قدرة (إن لم تكن رغبة) حكومة الدبيبة على ممارسة ضغط شامل على الأطراف كافة في الفترة المتبقّية أمام الاستحقاقات الانتخابية، مع الأخذ في الاعتبار إمكان حدوث "خلخلة" أمنية، سواءً من قِبَل حفتر، الذي بدأت وسائل إعلام غربية بوصفه بأنه "قنبلة موقوتة" أمام مسار تسوية الأزمة، أو من قِبَل الميليشيات المتطرّفة والمناهضة له في مصراتة وغرب ليبيا بشكل عام، والتي تتبنّى مقاربة صفرية إزاء الرجل وقواته.

خريطة التأثيرات الإقليمية والدولية
يبدو أن ثمّة إرادة لدى الأطراف الإقليمية والدولية لإيجاد تسوية للأزمة الليبية، وهو ما يؤشّر إليه التصميم على الالتزام بالجدول الزمني لانتخابات 24 كانون الأول، واستباق أيّ خطوات غير متوقّعة، بالدعوة، عبر الأمم المتحدة، إلى توضيح "الأساس الدستوري" للتصويت، وتبنّي التشريع الضروري لعقد الانتخابات وضمان سيرها بشكل سلس. أمّا الولايات المتحدة، العائدة بقوة وبمقاربة مؤسّساتية للقضية الليبية ضمن قضايا شرق أوسطية أخرى، فإنها وحدها التي تملك - في حقيقة الأمر - القدرة على ممارسة ضغوط على الأمم المتحدة للإسراع في ترتيبات الانتخابات، بما يرسل "رسالة قوية إلى الدول الأخرى"، بحسب المحلّل الأميركي والمسؤول السابق في البيت الأبيض بن فيشمان، من دون أن يعني ذلك بالضرورة عودة ليبيا إلى قمّة أولويات السياسة الأميركية، وإنما يشير - على الأقلّ - إلى توجّه أميركي نحو تفعيل التنسيق مع "الحلفاء" في هذا البلد، وهذه المرّة عبر ألمانيا.
وبينما دعمت فرنسا بكامل قوّتها، وبشكل مستمر، قوات حفتر في الشرق، فإن إيطاليا وشركاء أوروبيين آخرين دعموا القوات المتنافسة في الغرب، الأمر الذي ثبّت وجود انقسام أوروبي في مقاربة الأزمة. لكن يبدو أن ألمانيا - التي تنتقد السلوك الفرنسي في العديد من ملفّات التدخّل الأمني والعسكري في أفريقيا وتتحدّث عن سوء استغلال لموارد برلين التي تقدّمها الأخيرة إلى باريس لهذا الغرض - نجحت في ضمّ فرنسا إلى الحظيرة الأوروبية، الأمر الذي اتّضح بعد استقبال الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، الدبيبة، في باريس في حزيران الجاري، وتشديد الأول على وجوب وضع نهاية "لجميع" مظاهر التدخّل الأجنبي، وسحب "جميع المرتزقة الأجانب" بِمَن فيهم العناصر التشاديون والسودانيون، مع التذكير هنا، وإن في سياق مختلف، بأن باريس تعاني بدورها من مشكلات هيكلية في أنشطتها العسكرية في إقليم الساحل الأفريقي.

مصر ومسار "برلين 2"
فيما تنهمك مصر في ملفّات ساخنة للغاية، سواءً في حوض النيل أو في فلسطين، والاستجابة لدبلوماسية التهدئة من قِبَل تركيا وقطر على سبيل المثال، فإن ليبيا تمثّل أولوية دائمة ومبرَّرة لصانع القرار المصري. وقد نجحت القاهرة في القفز فوق الاستقطابات الإقليمية والدولية في الأزمة الليبية في الآونة الأخيرة، وتخفّفت من أعباء سياسات أطراف حليفة كانت تخصم من زخم الدور المصري وقبوله بشكل شامل لدى جميع أطراف الأزمة. ويبدو من أجندة "برلين 2" ومخرجاته، أن الرؤية المصرية، المصحوبة بجهود دبلوماسية مكثّفة وإعادة تنشيط لقنوات اتصال القاهرة مع مكوّنات العملية السياسية الليبية كافّة، قد حقّقت نضجاً لافتاً من عدّة نواح، أهمّها التمسّك بسيادة ليبيا ووحدتها خصوصاً في ظلّ تراجع سيناريوات التقسيم التي كان لمّح إليها بعض الفاعلين في الأزمة وداعموهم الإقليميون، إعادة النظر الشاملة في العلاقات المصرية - التركية ما صبّ في مصلحة الضغوط الممارَسة على الدول التي صدّرت المرتزقة إلى ليبيا (ولا سيما تركيا)، وقبل كلّ ذلك الإدارة "المقبولة" لملفّ "توحيد المؤسّسات الأمنية الوطنية" الليبية، والتي جعلت مؤتمر "برلين 2" يخوّل القاهرة الاستمرار في هذه المهمّة. إذ أقرّ البند 25 توجيه اللجنة العسكرية المشتركة (5+5) لتطبيق "اتفاق وقف إطلاق النار" وصيانته، بما يشمل استكمال إجراءات بناء الثقة وإطلاق سراح المعتقلين وإزالة الألغام وفتح الطريق الساحلي، وإقامة مؤسّسات أمنية وطنية موحّدة خاضعة لسلطة ورقابة المجلس الرئاسي والحكومة الانتقاليين، والبناء على محادثات القاهرة والجهود الجارية. وفي هذا الإطار، من المتوقّع أن تُظهر القاهرة انفتاحاً أكبر على جميع الأطراف المعنيّة، وأن تعمل على معالجة بعض شكاوى الوفود العسكرية من غرب ليبيا في جولات محادثات سابقة.

خلاصة
تتعزّز فرص ليبيا في استكمال ما يمكن وصفه بـ"مسار برلين 2"، وصولاً إلى انتخابات 24 كانون الأول المقبل، في ضوء عدّة معطيات منها تهدئة نسبية في الاستقطابات الإقليمية في ليبيا، ونجاعة متزايدة للدور المصري في الملفّ، وحرص دولي وأممي على تطبيق دقيق وملتزم زمنياً بهذا المسار، ونجاح حكومة الدبيبة اللافت في مقاربة الملفات الداخلية والخارجية بقدر من التوازن والسلاسة. وبينما لا يتبقّى للانتخابات المرتقبة سوى ما يقرب من ستة أشهر، فإن خيارات حفتر (77 عاماً) وقدرة الأطراف الخارجية على ضبط سلوكه (سلباً أو إيجاباً) تظلّ هاجساً حقيقياً للعملية السياسية برمّتها، التي تعوّق حفتر نفسه عن تقلّد أيّ منصب مهمّ في مستقبل ليبيا، على رغم تكهّنات أخيرة بمساعيه للتوصّل إلى مخرج قانوني يخوّله الترشّح للرئاسة.