لندن | تعيش كولومبيا، منذ أكثر من شهر، أجواء حربٍ، بعدما شلّ إضراب عمّالي جميع أنحاء البلاد، وتوقّفت عجلة الاقتصاد والنقل بشكل شبه تامّ، فيما ارتأت حكومة الرئيس إيفان دوكي، مواجهة الغضب الشعبي بالعنف. وتفيد الأرقام الرسمية بأن ما لا يقلّ عن 50 شخصاً قُتلوا، منذ 28 نيسان/ أبريل الماضي، فيما «اختفى» أكثر من 500 آخرين، إلى جانب عشرات المصابين بالذخيرة الحيّة. ويبدو النظام الكولومبي - الحليف الرئيس لواشنطن في أميركا اللاتينية - مصرّاً على المضيّ قُدُماً في تنفيذ حزمة سياسات نيوليبرالية جديدة، من شأنها القضاء على الرعاية الصحية العامة، وخصخصة المعاشات التقاعدية، وخفض الحدّ الأدنى للأجور، وفرض ضريبة بنسبة 19% على المواد الغذائية الأساسية، وهي سياسات تمسّ الحياة اليومية للطبقة العاملة في البلاد. ولم يُظهر دوكي أيّ بادرة تراجع عن توجّهاته، على رغم الاحتجاجات المستمرّة وانخفاض نسبة تأييده إلى 18%، في أدنى مستوى على الإطلاق لرئيس في تاريخ كولومبيا.
قُتل ما لا يقلّ عن 50 شخصاً في التظاهرات ضدّ الحكومة الكولومبية (أ ف ب )

وإذا كانت الولايات المتحدة هي الداعم الأساسي للنظام اليميني الكولومبي، في إطار مشروع هيمنتها على منطقة تعدّها حلقة نفوذ طبيعي لها، فإن الشريك العملياتي للنظام في بوغوتا، هو تل أبيب، التي تُعدُّ - بعد واشنطن - المورد الأهم للعتاد العسكري إلى البلاد، سواءً للجيش (بقطاعاته) أو للشرطة وقوات مكافحة الشغب، أو حتى لفرق الموت والميليشيات شبه العسكرية. وتتسلّح تلك الجهات كافة ببنادق قياسية من إنتاج إسرائيلي، كما تُشاهَد العربات المدرّعة (طراز «ساندكات») المصنوعة في الكيان العبري بكثافة في العاصمة ومختلف المدن الكبرى. ويتولّى مُلحقون عسكريون موفدون من قِبَل الجيش الإسرائيلي، إدارة عمليات تدريب مختلف تشكيلات الجيش والقوى الأمنية التابعة لحكومة بوغوتا، على تقنيات متقدِّمة في «مكافحة الإرهاب»، ونقل «أفضل الممارسات» في السيطرة على الحشود وسحق المقاومة المحلية، من رصيد خبراتهم المتراكمة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. ويشارك، أيضاً، متعاقدون إسرائيليون خاصون الجيش الكولومبي في أنشطة العمليات السرّية والاستخبارية والحرب «الثقافية»، والتدخّلات غير المعلنة عبر الحدود ضدّ فنزويلا وغيرها. كذلك، رُصدت في سماء كولومبيا طائرات إسرائيلية من دون طيار، تستخدمها الحكومة للمراقبة والاستخبارات العسكرية، فيما تُوفّر شركة إسرائيلية خاصة برمجيات التجسُّس والتعرُّف إلى الوجه وتكنولوجيات أخرى لمختلف الأجهزة الأمنية. ويتجاوز التعاون بين نظامَي تل أبيب وبوغوتا، الأُطر الرسمية، إلى مساحات رمادية متخمة بالأنشطة الدموية، إذ يتولّى متعاقدون من القطاع الخاص، معظمهم تقاعدوا أو تركوا الخدمة في الجيش الإسرائيلي، تدريبَ وتوجيه وتسليح الجماعات شبه العسكرية اليمينية المتطرّفة، المسؤولة عن سلسلة من أسوأ حلقات العنف ضدّ السكّان المحليين في كولومبيا، على مدى السنوات السبعين الماضية. ويُرسَل قادة هذه الجماعات إلى إسرائيل، بصفة دورية، لحضور تدريبات متخصّصة ومراقبة عمليات القمع ضدّ الفلسطينيين عن كثب.
العلاقات السياسية الحميمة بين تل أبيب وبوغوتا يوازيها تعاونٌ اقتصادي وثيق


وكان دوكي ألقى، العام الماضي، خطاباً أمام «أيباك» - أقوى مجموعة ضغط موالية لإسرائيل في أميركا -، أعلن فيه أن بلاده ستفتح ما سمّاه «مكتباً للابتكار» في مدينة القدس المحتلة، تحضيراً، في ما يظهر، لتوجّه حكومته إلى نقل مقرّ السفارة الكولومبية هناك أيضاً، على غرار ما أقدم عليه النظام الأميركي في عهد الرئيس دونالد ترامب. كذلك، ندّد دوكي بوجودٍ مزعوم لـ»حزب الله» في فنزويلا المجاوِرة، واصفاً إيّاه بأنه «منظمة إرهابية دولية». وخلال العدوان الأخير على غزة، أعربت حكومة دوكي عن «قلقها العميق إزاء الأعمال الإرهابية والهجمات التي يشنّها الفلسطينيون ضدّ إسرائيل»، كما أعلنت عن تضامنها مع «ضحايا» تلك الأعمال، فيما تجاهلت تماماً الجرائم الإسرائيلية. وفي موازاة العلاقات الحميمة بين تل أبيب وبوغوتا على المستوى السياسي، يبرز تعاونٌ وثيق على الصعيد الاقتصادي؛ فهناك اتفاقية للتجارة الحرّة بين النظامين سارية المفعول، منذ عام 2013. وتشكّل المعدّات العسكرية نصف مجموع حجم الصادرات الإسرائيلية إلى كولومبيا، فيما تستورد إسرائيل من الأخيرة الفحم الحجري والقهوة والفواكه.
ويقول خبراء في شؤون أميركا اللاتينية إن وتيرة التناغم العالية بين النظامَين، متأتّية، ليس من حسابات براغماتية فقط، بل أيضاً من حقيقة أنهما يلعبان الأدوار ذاتها كوكيلين إقليمييْن للولايات المتحدة، كلّ في إطاره الجغرافي. فكما يعتمد بقاء الدولة العبرية على مليارات الدولارات من المساعدات الأميركية العسكرية والمالية وضمانات القروض الزهيدة التكلفة، يستمرّ النظام في كولومبيا من خلال تلقّيه مساعدات مماثلة (أكثر من 461 مليون دولار مساعدات عسكرية في الربع الأوّل من العام الجاري) تحت ستار دعم «الحرب على المخدّرات»، التي كانت أُطلقت في عهد الرئيس الأميركي الأسبق، جورج دبليو بوش. وللمفارقة، فإن العقل المدبّر لتلك الحرب، التي تضْمن تدفّق المخدّرات من المافيات إلى الداخل الأميركي وعبر العالم من دون تسرّب عوائدها المالية للتنظيمات اليسارية المناهضة للسلطة، ليس إلّا الرئيس الحالي جو بايدن، الذي تفاخر بمنجزه الكولومبي، وتعهّد، خلال تسلّمه مهامّ منصبه، بتوسيع تطبيقه إلى دول أخرى في أميركا الوسطى.
ويقوم نظاما الحكم في كلٍّ من إسرائيل وكولومبيا على أسُس متطابقة: هيمنة أقلّية ثرية متنفّذة، تدير أنظمة عنصرية فاشية، تؤدّي خدمات لوجستية واقتصادية وعسكرية للولايات المتحدة، كرأس جسر في قلب أقاليم جغرافية شاسعة تعتبرها واشنطن بمثابة فضاءات نفوذٍ لها. وتسمح هذه العلاقة البنيوية مع المركز الأميركي بالتغطية على السياسات الإجرامية التي يعتمدها النظامان، في تل أبيب وبوغوتا، ضدّ السكّان الأصليين، بما في ذلك قهرهم وتشريدهم (هناك عدد لاجئين كولومبيين أكبر من عدد اللاجئين الفلسطينيين) ومصادرة أراضيهم ومواردهم، تحت غطاء عمليات «سلام» كاذب، و»محاربة الإرهابيين»، فيما تتولّى كلّ من تل أبيب وبوغوتا، في المقابل، إدارة الأعمال القذرة نيابة عن الأميركي في جوارهما الجغرافي. ويتولّى الإسرائيليون، مثلاً، تجريب الأسلحة الأميركية الجديدة على الفلسطينيين، ومن ثمّ إعادة تصديرها كمنتجات عبرية إلى حلفاء واشنطن من الأنظمة اليمينية حول العالم، من دون إثارة أيّ مصاعب داخلية للإدارات الأميركية، لا في الكونغرس ولا في غيره. وتعمل قوات كولومبية كمتعهّد لتدريب الشرطة على أعمال القمع والتعذيب والقتل الأميركية، في هندوراس والسلفادور والمكسيك وهايتي، من دون أن تضطرّ الحكومة الأميركية للمخاطرة بإرسال مواطنيها إلى هناك.
وكان الرئيس الفنزويلي الراحل، هوغو تشافيز، قد دان كولومبيا بوصفها «إسرائيل في أميركا اللاتينية». وهو أمرٌ لم يُثِر، وقتها، غضب النخبة الكولومبية الحاكمة، التي تعتبر نفسها، وفق تصريحات الرئيس الكولومبي السابق خوان مانويل سانتوس، بمثابة «شعب إسرائيلي فخري». وفي الحقيقة، فإن إسرائيل أصبحت - تماماً كما لو كانت سلسلة «ماكدونالد» أو «ستاربكس» أخرى - علامة تجارية لكلّ مشروع استيطاني عنصري مرعيّ أميركياً.