لم يكن الحق في السكن المُيسّر، يوماً، أولوية لدى صنّاع القرار في لبنان. هذا ما يُجمع عليه عدد كبير من الباحثين المَدينيين ممن لم ينفكوا، طوال سنوات، عن المطالبة بخطط سكنية تحفظ الجانب الإنساني للعقارات وتنزع عنها الطابع السلعي الذي أرساه النموذج الاقتصادي الريعي.[اشترك في قناة ‫«الأخبار» على يوتيوب]
مع توالي الأزمات، تفاقمت الحاجة إلى السكن بالتزامن مع ارتفاع المخاطر التي تتهدّد هذا الحق الأساسي للعيش الكريم. وإذا كانت التهديدات بالإخلاء التي سُجلت منذ تفاقم الأزمة متوقّعة، بفعل تساوي وقع الانهيار على المالك والمُستأجر، فإن ما يبدو مستغرباً هو إقدام بعض السلطات الدينية المولجة إدارة الأوقاف على «تهجير» المُستأجرين، إما بهدف زيادة الإيجار أو لتغيير وجهة استعمال المأجور. وفي الحالتين، الغاية واحدة: زيادة أرباح جهات يُفترض أنها معنيّة بـ «عمل الخير».
أكثر من حالة سجّلها «مرصد السكن» في منطقة المدوّر العقارية في بيروت، طُلب فيها من مسـتأجرين لدى الأوقاف زيادة قيمة الإيجار أو الإخلاء. وقد تواصل عدد من المُستأجرين مع معنيين في الأوقاف شاكين تعرّضهم للابتزاز.
تشير تقديرات «المرصد» إلى أن الأوقاف تملك 29 عقاراً على الأقلّ، سكنية وتجارية، في منطقة المدور. الباحثة المَدينية في «استديو أشغال»، تالا علاء الدين، التي كشفت ميدانياً على البيوت والعقارات في المنطقة، أوضحت لـ«الأخبار» أن المسح أظهر أن نسبة كبيرة من المُقيمين من المُستأجرين القدامى، «والمُشكلة الأساسية التي يعاني منها هؤلاء هي رفع الإيجارات». ورجّحت أن يكون عدد التهديدات بالإخلاء أعلى من تلك التي رُصدت، لافتة الى أن «كثيرين يخشون الإبلاغ علناً عن ذلك خشية اتهامهم بالتطاول على الكنيسة وكسر المحرّمات».
علاء الدين لفتت إلى أن عمليات الطرد بدأت عام 2014، بالتزامن مع صدور قانون الإيجارات الجديد، وبدأت الدعاوى القضائية بين الأوقاف والمُستأجرين بالظهور عام 2017، مشيرة إلى أن عمليات إخلاء كثيرة سبقت انفجار الرابع من آب. وفيما كان الرهان أن تُشكّل الكارثة فرصة لإعادة الأوقاف النظر في طلبات الإخلاء والعمل على مساعدة المنكوبين وتأمين السكن المُيسّر لهم، قرّر المعنيون استكمال الـ«بيزنس» والمضيّ في نهج تهجير المُستأجرين.
بعد انفجار المرفأ، تواصلت مع «المرصد» حالتان مهدّدتان بالإخلاء من قبل أحد الأديرة في المدوّر، «وفي إحدى الحالتين تحوّل التهديد بالإخلاء من تهديد شفهي إلى محاولة إخلاء قسري»، تقول علاء الدين، مُشيرةً إلى أن «الوقف لم يؤدِّ واجباته بالتصليح للمُستأجرين المتضررين من الانفجار. فبقي، مثلاً، الكثير من المصاعد معطّلة بعد ثلاثة أشهر من الانفجار. ولولا تدخّل بعض الجمعيات لبقي المئات مقيمين في بيوت شبه منهارة، فيما لا يزال العشرات حتى اليوم يعانون من تداعيات الانفجار، وقسم كبير منهم من المسنّين».
6.7% من مساحة محافظة بيروت تعود ملكيتها إلى الأوقاف الدينية التابعة لطوائف مختلفة


يطرح ذلك تساؤلات حول الدور الاجتماعي للوقف والمسّ بجوهر هذا المفهوم. المحامي الخبير في قانون الأوقاف جورج أصاف أوضح، في حديث سابق مع «الأخبار»، أن الوقف ينقسم إلى نوعين؛ خيري وذري. الأول هو ما يوقف على الكنائس والمساجد ودور العبادة ويتخذ صفة «العمومية» ويصبّ في خانة «النفع العام»، فيما الوقف الذرّي هو وقف العائلات وبعض الأفراد لممتلكاتهم خدمةً للفقراء من ذريّة العائلة، على أن يكون شرط «البرّ» (الصدقة والخدمة الاجتماعية) موجوداً «وإلا لما استقام الوقف».
«الأخبار» تواصلت مع المسؤول الإعلامي في بكركي وليد غياض للوقوف على موقف البطريركية من ملف إخلاء المُستأجرين في منطقة المدور، فأحالها إلى مطرانية بيروت. الأخيرة نفت أن تكون لديها أوقاف في منطقة المدور تحديداً، وأكدت مصادرها أنها تقوم حالياً بمساعدة المُستأجرين لديها. الإجابة نفسها تكررت على لسان كل من المعنيين في مطرانية بيروت للروم الملكيين الكاثوليك ومطرانية بيروت للروم الأرثوذكس لجهة نفي ملكيتهما لأي عقارات في المنطقة.
وبالبحث عن مالكي العقارات التي أُنذر مستأجروها بالإخلاء، تبيّن أن عقارات تواصلت منها تعود ملكيتها إلى دير مار الياس الراس التابع للرهبانية المارونية، ما يعيد الكرة إلى ملعب بكركي. علماً أن للبطريركية سوابق في إخلاء مُستأجرين. فقبل عام، أنذرت البطريركيّة المارونية عدداً من المستأجرين بإخلاء بيوت تملكها في بكركي وغادير تحت طائلة دفع غرامات تصل إلى مئة ألف دولار، «بالدولار وبحسب سعر صرف المعمول به وقت الدفع»، وذلك بهدف إقامة مشروع خاص بالبطريركية لزراعة الأفوكادو، «وهو أمر لا يمكن فصله عما يجري حالياً»، بحسب معدّي تقرير «أراضي الوقف والسكن المُيسّر» العاملين في «مرصد السكن»، رابطين ما يجري بـ«مسار التهجير المستمر من قبل الأوقاف الدينية» التابعة لمختلف الطوائف.
ووفق أرقام المديرية العامة للشؤون العقارية عام 2016، فإنّ 6.7% من مساحة محافظة بيروت، أو ما يوازي نحو مليون و300 ألف متر مربع، تعود ملكيتها الى الأوقاف الدينية التابعة لطوائف مختلفة. وجزء من هذه «الثروة العقارية» يُستخدم لأغراض اجتماعية ودينية، فيما يُستثمر الجزء الآخر عن طريق السكن والتجارة وغيرهما.