جاء وقف إطلاق النار المتبادل، بلا شروط، تثبيتاً للإنجازات والانتصارات التي حقّقتها انتفاضة القدس، وصمود أهالي حيّ الشيخ جراح، وانتفاضة فلسطينيي الـ 48، والتي لحقتها مقاومة شعبية في عدّة مواجهات في الضفة الغربية، على الرغم من التنسيق الأمني. وتمّ الإعلان عن وقف إطلاق النار من جانب المقاومة في قطاع غزة، تأكيداً لِمَا حقّقته من توسيع قواعد الاشتباك لتشمل القدس والمسجد الأقصى، وهو ما جعل العدوّ يتراجع عن مواصلة محاولات اقتحام الأقصى من خلال إغلاق باب المغاربة (من دون إعلان)، بعدما وصلت الصواريخ ــــ التي بلغت عدّة آلاف ــــ إلى تل أبيب والقدس وعسقلان ومناطق أخرى، ما أربك العدوّ وجعل ردود قصفه، مهما بلغت فداحتها، محكوماً عليها بالفشل، وهو ما يؤكد اضطرار قيادة العدو إلى قبول وقف إطلاق النار بلا شروط.لهذا، حقَّ للفلسطينيين ومناصريهم ومشاركيهم وداعميهم أن يرفعوا شارات النصر، وأن يعلنوا ما تمّ تحقيقه، حتى الآن، نصراً. ولكنه نصرٌ تبدأ معه مرحلة جديدة من الصراع، ذلك أن الاحتلال ما زال قائماً، وما زال الكيان الصهيوني يأمل بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإتمام مشروعه الذي يقوم على أساس اقتلاع كلّ الفلسطينيين من فلسطين، وإحلال الكيان الاقتلاعي الاستيطاني العنصري مكانهم في كلّ البلد. ولكن، لكي تُستجلى المرحلة المقبلة من الصراع، لا بدّ من مراجعة سريعة لتفاصيل ما جرى في رمضان وبعده، وصولاً إلى اللحظة الراهنة. 
وصل الوضع، الآن، إلى ما يلي: استمرار الحرب الرابعة لليوم الثاني عشر بين المقاومة في قطاع غزة وقيادة الجيش الصهيوني. وقد راحت عدّة دول عربية وأجنبية تتدخّل لوقف إطلاق النار في آن واحد. فوجدت أمامها مقاومة لها شروطها، منها التعهُّد بوقف اقتحام المسجد الأقصى، وبوقف الاستيلاء على بيوت «الشيخ جراح»، والتعهُّد بعدم القيام باغتيالات، مع تكريس قواعد اشتباك لا تقتصر على قطاع غزة، وإنّما تشمل القدس ومسجدها أيضاً.
أمّا الكيان الصهيوني الذي فوجئ بالحرب أصلاً، فقد راح يردّ على قطاع غزة، بكلّ ما يمتلك من قوّة نيران، حتى زاد عدد الشهداء على المئتين، وبلغ عدد الجرحى الآلاف، فيما الدمار واسع جداً. ولكن ذلك لم يؤدِّ، على أيّ حال، إلى وقف المواجهة، أو إبداء المقاومة استعدادها لوقفها من دون فرض شروط على العدوّ وإقرار الأخير بذلك علناً، الأمر الذي جعل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، يَصعد على شجرة لا يعرف كيف ينزل عنها. وأصبح التصعيد العبثي ملجأه الوحيد.
بكلمة: يمكن القطع أن المقاومة في قطاع غزة كسبت الحرب حتّى لو لم تفرض شروطها، وذلك بتوقّف إطلاق النار من دون شروط. فما تحقَّق من إنجازات تحقَّق على الأرض. وبهذا، نشأت معادلة: «وإن عدتم عدنا». وهو ما جعل من الصعب على قيادة الكيان الصهيوني القبول بوقف متبادل لإطلاق النار، بلا شروط، لأن خسارتهم أصبحت واضحة.
على المستوى الآخر، فإن تطوُّر الانتفاضة، بأشكالها المختلفة خلال شهر رمضان وفي ظلّ صواريخ المقاومة، حقَّق ما لم يحصل منذ النكبة عام 1948، أي وحدة الشعب الفلسطيني في كلٍّ من الداخل الفلسطيني المجزّأ وفي الخارج، ولا سيما انضمام شباب الـ 48 إلى الاعتصام في المسجد الأقصى، وانتفاض اللد وحيفا وعكا والناصرة. وهو ما أسهم، بدوره، في انطلاق مقاومة شعبية، كانت قد تأخّرت في الضفة الغربية، بسبب موقف القيادة الرسمية واستمرار التزامها باتفاق التنسيق الأمني.
وهنا، يمكن القطع بأن انتفاضة باب العمود، وصمود أهالي «الشيخ جراح»، ونجاح المرابطين في المسجد الأقصى، ومواجهات شباب القدس، وتدخُّل صواريخ قطاع غزة، حقّقت إنجازات وانتصاراً، ولا سيما في إغلاق باب المغاربة للحيلولة دون تنفيذ جماعات الهيكل تهديدها بإعادة اقتحام المسجد في الأسبوع الماضي، تنفيذاً لعدّة مناسبات دينية كانت تعدّ لها.
فرضت المقاومة قواعد اشتباك لا تقتصر على قطاع غزة، وإنّما تشمل القدس ومسجدها الأقصى


من هنا، فإن المواجهات والانتفاضات الشعبية التي اندلعت في رمضان، وما زالت مستمرّة حتى الآن، شملت كلّ شعب فلسطين في الداخل والخارج، وحقَّقت إنجازات مهمّة يمكن أن تتصاعد في المرحلة المقبلة. ولكن المشكلة تبقى في قيادة سلطة رام الله التي ستتّجه إلى التهدئة، تعلُّقاً منها بأوهام الحلول السياسية والوعود الأميركية.
على أن ثمّة نقطتَين بحاجة إلى وقفة لمنع الذين في قلوبهم مرض مِن أن يعودوا للصيد في الماء العكر تعويضاً لِمَا حلّ بكلّ طروحاتهم السابقة من هزائم سياسية مروّعة، وهم يشهدون انتفاضة باب العمود، وصولاً إلى الصواريخ التي ضربت تل أبيب. لقد تهاوت الموضوعة القائلة إن الكيان الصهيوني لم يعد العدوّ الأول للعرب والمسلمين، وإن الهرولة نحو التطبيع مع هذا العدوّ إلى حدّ التبعية له، هي المستقبل العربي والإسلامي القادم. فإذا بانتفاضة القدس وفلسطين وصواريخ المقاومة تعيد البوصلة إلى اتّجاهها الصحيح باعتبار الكيان الصهيوني، الذي تدهورت سمعته العسكرية والسياسية والمعنوية، العدوّ. وقد ظنّ هؤلاء أن في استطاعة الكيان حمايتهم، وهو الذي صعد على شجرة القوّة ولا يعرف الآن كيفية النزول عنها.
النقطة الأولى: التشكيك بموقف محور المقاومة، ولا سيما «حزب الله»: لماذا لم يتدخّل عسكرياً لمساندة غزة؟ وذلك من دون أن يجرؤوا على الدعوة إلى إنقاذ غزة، لأن غزة، وقفت ندّاً، وهي التي بادرت بإطلاق الصواريخ، وحقّقت نصراً، قبل أن يتوقّف القتال. وقد راحت أميركا ترسل لها الوسطاء لتقبَل بوقف إطلاق النار، فإذا بها تضع شروطاً إذا قبل بها نتنياهو يُمرّغ رأسه في الوحل. فالتدخل يكون في حالتين: حالة إنقاذ مقاومة قطاع غزة من سحق، وهذا غير وارد، وليس بوارد. والحالة الثانية حين تُفتح أبواب الحرب على مصراعيها للتحرير الكامل، وليس لتحقيق أهداف جزئية يمكن تحقيقها، أو أغلبها، من دون حروب إقليمية كبرى. ولعلّ هذا اليوم آت، بظروف أخرى، ومعادلة قوى أخرى. فالوحدة بالمشاركة الجماعية تتحقّق، وفق سُنن الحرب والسياسة، في حالة الهجوم العسكري العام، وليس في مراحل قبل ذلك.
والنقطة الثانية: عدم الاعتراف بفشل العدو بسبب الغموض في وقف القتال، فيمكن التلاعب بتقدير الموقف، وذلك إلى جانب عدم الإعلان عمَّا يقوم به من تنازلات وتراجعات، فبعضها طبّقها عملياً من دون الإعلان، كإغلاق باب المغاربة في وجه المستوطنين الذين أعدّوا لاحقاً لاقتحام المسجد الأقصى حيث لم يُعلن عن هذا الإغلاق، كما لم يتمّ إعلان تأجيل ترحيل أهالي «الشيخ جراح»، إذ أُبقي مؤرجحاً.
ثم يتمّ هذا الاستغلال هنا، بإبراز ما وقع من شهداء وجرحى وخسائر مادية من خلال القصف الجوي الصهيوني. وذلك ليقولوا إن الخاسر في هذه المواجهة كانت غزة وليس «إسرائيل». وهنا، لا يسألون، إذا كان العدو قد انتصر، لماذا لم يفرض شروطه لوقف إطلاق النار؟ ولماذا لم يحتلّ قطاع غزة ويسحب سلاحه، كما كان يحدث أيّام «انتصاراته العسكرية»؟ ثم لا يلحظون ما لَحِق بسمعته من سوء في نظر الرأي العام العالمي الذي سيكون من أسباب هزيمته النهائية.
لا شكّ في أن ما حدث في فلسطين خلال شهر رمضان وما بعده، شكّل في ضخامته وأبعاده وتداعياته نقطة فاصلة بين مرحلتين، وذلك بغضّ النظر عن التفاصيل والأشكال التي انتهى إليها القتال في حرب غزة، كما بغضّ النظر عن كيفية استمرار ما حدث من انتفاضات ومواجهات في القدس ومناطق الـ 48 وقطاع غزة والضفة الغربية. 
وما دام وقف إطلاق النار قد ثبّت انتصار المقاومة من دون أن يعترف الكيان الصهيوني بفشلٍ أو بهزيمة، فإن ما بعده ستَحكمه قاعدة «وإن عدتم عدنا»، أي إذا عاد العدو لاقتحام المسجد الأقصى، أو ذهب إلى ترحيل أهالي الشيخ جراح، ولا سيما إذا عادت الانتفاضة، فالسمة الشعبية التي تكرّست هنا تحمل في طياتها أيضاً قاعدة «وإن عدتم عدنا»، أي إذا حاول الكيان الصهيوني العودة إلى كلّ ما أدّى إلى الانتفاضات والصدامات، الأمر الذي يجب تكريسه في المرحلة المقبلة باعتبار الأصابع على الزناد في قطاع غزة، وباعتبار الانتفاضات والمقاومة «وراء الباب» في القدس والضفة وقطاع غزة ومناطق الـ 48.
كان من المفترض أن تتواصل الانتفاضات بعد أن تضع الحرب أوزارها في قطاع غزة، وذلك لعدم إعطاء الكيان الصهيوني فرصة لإعادة تنظيم صفوفه التي اضطربت في ميدان المواجهة، كما على المستويَين الداخلي والدولي إلى جانب تدهور سمعته أمام الرأي العام العالمي. وكان من المفترض أيضاً، أن تُترجم وحدة الشعب الفلسطيني في الداخل وفي الخارج، بتشكيل جبهة متّحدة من الفصائل وقيادات من شباب الانتفاضات، تحت استراتيجية مواصلة الانتفاضة الشاملة حتى دحر الاحتلال وتفكيك المستوطنات، وبلا قيدٍ أو شرط، في ظلّ استعادة السردية الفلسطينية: «كلّ فلسطين لنا»، وتحريرها من النهر إلى البحر.
طبعاً، هذا الافتراض، أو المفترض، يتهدّده موقف الرئيس الفلسطيني وقيادة «فتح» إذا ذهبا إلى التهدئة واكتفيا بما تحقَّق، وفتحا الباب أمام أوهام التسوية وحلّ الدولتين التصفَوي. وهو ما ستضع أميركا كلّ ثقلها وراءه، وتحشد دعماً دولياً ودعم قيادات عربية لتعزيزه، الأمر الذي سيشكّل طعناً للإنجازات التي حقّقتها «انتفاضة فلسطين»، وتمييعاً للموقف الفلسطيني وعوْداً لانقسامه، وإنقاذاً للكيان الصهيوني من المأزق الذي راح يطبِق عليه من كلّ جانب.