حصل ما كان في الحسبان. ليس لقدرتنا على التنبّؤ بخطوات المحكمة الدولية الخاصة بلبنان، أو لوجود عملاء سريين لنا داخلها، بل لأن ما جرى التحذير منه، قبل تسع سنوات، مستمر حضوراً، وبقوة. كان منطقياً أن تصل المحكمة في إجراءاتها التعسفية الى حدود القمع المباشر لمن يطرح أسئلة حول أعمالها. وهي لم تكتف بمماطلة طويلة ومستمرة لسنوات إضافية، وبإنفاق مئات ملايين الدولارات، نصفها من جيب المواطن اللبناني الذي يعاني الفقر والعوز، بل هي تتوسع، اليوم، للحصول على مزيد من مواد العمل، ولانتزاع صمتنا وسكوتنا عن كل البشاعات المرتكبة.
ليس صدفة أن يفرج رئيس المحكمة عن قرار الاتهام في حق «الأخبار» و«الجديد» أمس، لأن هذه المحكمة التي يقول من يقف خلف إقامتها إنها تهدف الى كشف حقيقة من قتل رئيس وزراء لبنان رفيق الحريري ومعاقبته، نشرت قرارها بعد 24 ساعة على محاولة الفريق السياسي نفسه، في لبنان وخارجه، تبرئة قاتل رئيس وزراء لبنان سمير جعجع، لا بل تنصيبه رئيساً للجمهورية.
ليس صدفة أن تتهمنا المحكمة، وتطلب مثولنا أمامها، في وقت تطاردنا فيه السلطة اللبنانية نفسها التي تدعم المحكمة. من رئيس الجمهورية الى وزير العدل وقاتل رئيس حكومة لبنان، الى نجل رئيس وزراء قامت المحكمة من أجله. كل هؤلاء يلاحقون «الأخبار» منذ سنوات طويلة، محاولين إغراقها بالدعاوى القانونية، وبحملات ترهيب في الاسواق الإعلانية والتجارية، بمساعدة مؤسسات إحصائية شريكة في هذا الجرم. كل ذلك لمنع «الأخبار» من الانتشار، تماماً كما فعل من يديرهم في مملكة آل سعود التي حجبت موقع «الأخبار» الالكتروني.
ليس صدفة أن يحصل ذلك في الوقت نفسه الذي يلجأ فيه مندوب العدو الاسرائيلي في لجنة التنسيق الثلاثية (الجيش واليونيفيل وإسرائيل) الى إعلان رفع حكومته شكوى الى مجلس الامن باتهام لبنان بخرق القرار 1701، استناداً الى «رجل حزب الله الصحافي إبراهيم الأمين» الذي نشر مقالات تؤكد حصول الخرق. وهو الذي سبقته مندوبة إسرائيل في الامم المتحدة، نفسها، بتقديم وثائق الى مجلس الامن تستند فيها الى «الأخبار» لاتهام لبنان بخرق القرار، وتتهم «الأخبار» بأنها «بوق» لدى حزب الله.
وليس صدفة أن يصدر قرار النشر في وقت يحاول فيه رئيس الجمهورية، ومعه وزير العدل، تجاوز محكمة المطبوعات، وإحالة «الأخبار» على محكمة جنايات، بغية الوصول الى عقوبات بالسجن.
وها هي المحكمة التي تزعم أنها جاءت لتحل محل السلطات القضائية اللبنانية، لأن في لبنان قصوراً، مدّعية أنها تتحلى بأعلى المعايير الدولية، تطلب سجن الصحافيين، في عقوبة لم يعد لبنان يعترف بها، كما هي حال غالبية دول العالم المحترمة.
ليس لنا ما نقوله
لهؤلاء التافهين في هذه اللحظة سوى: صوتنا سيلحق بكم
أكثر من ذلك. هذه المحكمة تريد، اليوم، ليس ترهيب الصحافيين فقط، بل ترهيب القطاع التجاري نفسه الذي يقف خلف الصناعة الاعلامية. وما سابقة الادعاء على شخصيات معنوية (حالة غير موجودة على الإطلاق في المحاكم الدولية) إلا إشارة إضافية إلى سعي من أصدر القرار، ومن يقف خلفه سياسياً وقضائياً، للنيل من المؤسسات التجارية كشركة «الجديد» و«شركة أخبار بيروت». وهي تهدف الى تهريب هذه المؤسسات وأصحابها والمساهمين فيها، الحاليين أو المحتملين، ولا أحد يعرف ما إذا كانت الاستنسابية ستقود هذه المحكمة الى تجريم كل تعامل تجاري أو مالي معهما.
في الجانب الوظيفي المباشر من خلف هذا القرار، تعمد المحكمة الى ممارسة أبشع عملية ترهيب على وسائل الإعلام تمهيداً لإصدار أحكام عشوائية. وهي خطوة يريدها الفريق السياسي والقانوني الذي يقف خلف قرار إنشائها، ويتولى تمويل أعمالها، دافعه الى ذلك حالة الضعف الشديد التي تعتري عمل المحكمة في القضية الأساسية، بعدما أظهرت تفاصيل كثيرة، سواء تلك التي نُشرت أو تلك التي تسرّبت ولم تنشر بعد، أن الضعف العام يسود القرار الاتهامي، وأن الأدلة التي يجري الحديث عنها لا تزال تقوم على عملية تقنية قابلة للنقض، كما أظهر خبراء كثر في عالم الاتصالات، وتستند الى شهود يجري التستر عليهم بحجة الدفاع عنهم، لكنهم أثبتوا في مراحل التحقيق السابقة أنهم دُفعوا، لأسباب مختلفة، الى الإدلاء بشهادات هي عبارة عن حكايات وأقاويل وتأويلات.
وواضح لنا، كما بالنسبة إلى كل قانوني خبير، أن الاتهام الموجه إلينا إنما يصب مباشرة في خطة فريق الادعاء السياسي والقانوني بإسدال ستارة سوداء كاملة، بحيث لا يطّلع اللبنانيون، ولا أهالي المتضررين، سواء من المدّعين أو المتهمين أو بقية الجمهور، على التفاصيل الضرورية من أعمال المحكمة. تجري تغطية كل ذلك باسم السرية، ويجري القمع باسم مخالفة قواعد حفظ السرية.
إن مشكلتنا مع المحكمة مثلثة:
أولاً، أنها مرفوضة في مبدئها وانتقائيتها. فهي محكمة تشبه النظام الذي نعاني منه، وهو نظام المقامات الذي يجعل العدالة امتيازاً لكبار القوم، فيما لا بأس أن يبقى آلاف الأشخاص عرضة للمظالم ومن دون أي عدالة... فمع احترامنا وتقديرنا لكل الضحايا، ليس من المقبول أن تكون هناك محكمة لعظماء القوم يُبذل من أجلها الغالي والزهيد، فيما تبقى العدالة مهملة في لبنان، ويبقى الضحايا كلهم في منأى عن أي عدالة. المطلوب من العالم أن يذكر اللبنانيين بخطورة الجرائم ضد الإنسانية، بجرائم الحرب، وليس بالجرائم المقترفة ضد عدد من المقامات.
ثانياً، أنها مرفوضة من حيث نظامها وطريقة عملها. فبعدما استباحت المعلومات الشخصية للبنانيين من دون أي تناسب بين مطالب التحقيق والنتائج المرجوة منه، ها هي تستبيح الحرية الإعلامية، فتباشر دعواها بالمس بصحيفة وتلفزيون، قد يكونان الوسيلتين الأكثر اهتماماً بشؤون المواطنين والناس في لبنان. ومن هذا المنطلق، تظهر هذه المحكمة كأنها تتوسع وتمتد كالأخطبوط في حياة اللبنانيين.
ثالثاً، أنها مرفوضة اليوم من حيث سعيها الى كتم كل صوت ناقد أو مراقب لعملها. ونحن نذكر أن بعض الأصوات في لبنان إنما خففت من هواجس التسييس بدعوى أن عملها سيكون شفافاً، فها هي تستهل عملها بضرب الصحافة، في رسالة لا بد أن تؤدي عملياً الى إلقاء حرم ورقابة ذاتية على الاعلام في كل ما يتصل بهذه المحكمة. ويكفي أن نلفت أنظار المواطنين هنا الى أنها المرة الأولى التي يجري فيها اتهام شخص معنوي في المحاكم الدولية. فهل في هذه المحكمة أو في فعل «الأخبار» أو «الجديد» ما يبرر أن نختلق سابقة في المجال الدولي، سابقة تخالف كل أعمال الفقه القانوني وأنظمة المحاكم؟
انطلاقاً من كل هذه الأمور، دفاعنا في هذه المحكمة سيكون في أساسه طعناً في مشروعيتها، صوناً لفهمنا للعدالة والحرية.
أخيراً وليس آخراً، نحن في «الأخبار» نعمل على درس الملف من جانبه القانوني، ونتواصل مع المعنيين بهذا الأمر. وسيكون لنا موقفنا من كل هذه المسرحية. وإذا كان لزاماً علينا أن نأمل موقفاً عملياً من جانب زملاء في المهنة في لبنان وخارجه، وتحركاً لحماية حقوقنا الخاصة وحرياتنا من قبل سلطات لبنان، فمن المفيد توضيح شيء بسيط، حتى لا يبقى التباس في ذهن كل من وقف وشارك في هذه الجريمة.
نحن، في «الأخبار»، صدرنا يوم إعلان انتصار لبنان ومقاومته على الحرب الاسرائيلية المدمرة عام 2006، وأعلنا أننا كنا، وما زلنا، في قلب حركة المقاومة لكل احتلال ولكل استعمار. وأننا كنا، وما زلنا، الى جانب حقوق الفرد بما يضمن حفظ إنسانيته وحقه في منع التسلط والتعسف. وكنا، ولا نزال، ندرك أننا سندفع ثمن موقعنا وموقفنا هذين، ولذلك، نعود ونقول: نحن جزء من مقاومة تبذل كل ما تقدر على بذله، من الأنفس والدماء، في سبيل حريتنا المطلقة. وعندما نقول إننا مقاومة، فهذا يعني أننا نقاتل من أجل العدالة، ولن يرهبنا، لا قرار اتهامي، ولا إحالة على محكمة أو غيرها، في لبنان أو خارجه. وسنكون دائماً في الموقع الاول لمواجهة كل أنواع التعسف والتسلط والقتل، سواء صدرت عن محتل، أو سلطة جائرة، أو حكم فاسد، أو قضاء غير نزيه. ولن ترهبنا كل هذه المحاولات. وليس لنا ما نقوله لهؤلاء التافهين في هذه اللحظة سوى: صوتنا سيلحق بكم، أينما ذهبتم وأينما حللتم. أما صمتنا، فلن تحصلوا عليه، لا في محاكمكم، ولا في جرائمكم... واركبوا أعلى ما في خيلكم!