ليست المسألة رفض ربط التعليم بالنظريات التربوية الحديثة وحركة التطور التكنولوجي العالمي، فذلك أمر بات أكثر من ضروري مع غياب تحديث المناهج الرسمية اللبنانية منذ أكثر من 18 عاماً. القضية هي أن تلزم بعض إدارات المدارس الخاصة تلامذتها ببرامج لم تقوّمها أي مرجعية تربوية، وأن تتقاضى لقاءها مبالغ مالية مستقلة عن الأقساط ولا ترد في الموازنات المدرسية التي ترفع إلى وزارة التربية.يحق للمدارس الخاصة أن تضيف أساليب تعليمية جديدة أو أنشطة غير إلزامية خارج المنهج الدراسي تنمّي مهارات معينة، علمية كانت أو تكنولوجية أو فنية أو رياضية، وهذه لا تحتاج إلى موافقة المركز التربوي للبحوث والإنماء، عملاً بالمادة 13 من المرسوم 1436 بتاريخ 23 آذار 1950 (نظام فتح المدارس الخاصة) التي تنص على «منهج التعليم في المدارس الخاصة، الوطنية والأجنبية هو المنهج الرسمي، لكن مع الاحتفاظ بالمستوى العلمي المحدد في كل مرحلة من مراحل ذلك المنهج، يحق لمديري المدارس أن يختاروا الأساليب الفنية التي يرون مصلحة في اتباعها وأن يضيفوا إليها مواضيع غير منصوص عنها في المنهج الرسمي».
إلّا أن إضافة برنامج تعليمي متكامل أو اعتماد كتب مختلفة عن الكتب الرسمية تتطلب موافقة المركز للتأكد من عدم التناقض مع المنهج، وتطبع عادة الفقرة الآتية على إحدى صفحات الكتاب «إن هذا الكتاب مطابق للأنظمة والقوانين النافذة ومشتمل على مضامين المناهج الصادرة بالمرسوم رقم 10227 بتاريخ 8/5/1997، وقد جرى تقويمه والموافقة عليه من قبل المركز لهذه الجهة فقط...».
فإذا كان البرنامج إلزامياً، فهذا يعني أنّه يجب أن يكون مقوّماً علمياً وأن تندرج تكلفته ضمن القسط المدرسي، عملاً بالمادة الأولى من القانون515/1996 الخاص بتنظيم الموازنة المدرسية، التي تنص على أنه «يفهم بالقسط المدرسي كل ما تفرضه المدرسة على التلميذ من مبالغ أياً كانت تسميتها...».
يتكبد بعض الطلاب ما بين 150 و250 دولاراً خارج القسط

هذه ليست حالة برامج الحساب الذهني (على سبيل المثال لا الحصر)، فهو عبارة عن مناهج تعليمية متكاملة مكونة من قواعد حسابية وأفلام وكتب مطبوعة دخلت مناهج بعض المدارس الخاصة منذ عام 2008، وتدرّس بصورة إلزامية ويدفع التلميذ ثمنها من خارج القسط بين 150 و250 دولاراً أميركياً، بواسطة عقود تبرمها إدارات المدارس مع جهات محلية، منها معهد (professional learning center (PLC، بإدارة سعد سعد، ويعرّف المعهد نفسه بأنه الوكيل الحصري لشركة UCMAS الماليزية في لبنان. ومركز رشد للتنمية البشرية، بإدارة هادي حمزة، وهو صاحب برنامج ACMAS. وSMART بإدارة طارق هرموش وSMART BRAIN بإدارة جمعية العزم والسعادة. لا تقدم هذه الجهات أي مستند رسمي يثبت أن برامجها قومت فعلاً من المركز التربوي. إلّا أنها تمتلك مستنداً موقعاً من وزير التربية الياس بو صعب، يحمل الرقم 9564/11 بتاريخ 4/8/2014 يوافق فيه على طلب معهد PLC تقديم البرنامج «UCMAS» مجاناً خلال العام الدراسي 2014 ـ 2015 للصف الثالث في 5 مدارس رسمية في قضاء المتن، من دون أن يتضمن الطلب أسماء هذه المدارس، كذلك هناك تعميم أصدره بو صعب بتاريخ 20 /10 /2014 يأمل فيه من جميع المسؤولين عن المدارس الرسمية والخاصة «المساهمة في تنفيذ البرنامج من خلال تسهيل مهمة معهدprofessional learning center ليتمكن التلامذة من التعرف إلى البرنامج وأصول تطبيقه وإبراز مواهبهم وقدراتهم العلمية والذهنية». اللافت أن التعميم لا يستند إلى رأي أو موافقة المركز التربوي، ولكنه يتبنى الأهداف نفسها الواردة في طلب المعهد الوارد إليه، وهي أن «البرنامج يمكّن التلامذة من القدرة على التركيز ودقة الملاحظة والاستماع وتطوير التخيل والتصور وتقوية الذاكرة وتعزيز السرعة والدقة والمبادرة والثقة بالنفس وبناء أساس متين في مجال التحصيل الأكاديمي وتطوير قدرات حسابية ذهنية معينة». ومن حيثيات التعميم، أنّ المعهد ينفّذ البرنامج في لبنان منذ 1993! علماً أن المعهد نفسه انطلق في عام 2011، وهو غير مسجل كشركة تجارية، بل كمؤسسة تعليمية.
هذا التعميم وفّر دعماً للمعهد في تسويق منتجه. لكن هل جرى تقويم للبرنامج فعلاً؟ يؤكد الرئيس التنفيذي للمعهد سعد سعد لـ «الأخبار» أن هناك أبحاثاً ودراسات حثيثة عن UCMAS، الذي يطبق في أكثر من 54 دولة في العالم، قامت بها جامعات عالمية، ومنها جامعة هارفرد، وهي أظهرت أن البرنامج يطور المهارات والقدرات العقلية والذهنية لدى الأطفال في فترة ذروة نموهم العقلي من سن السادسة وحتى الخامسة عشرة. ماذا عن لبنان؟ يجيب: «عقدنا اجتماعات كثيرة مع المركز التربوي، وقد اختبر عدد من أولاد المسؤولين في وزارة التربية أهمية البرنامج من خلال صفوف تجريبية». ويقول إن المعهد يبحث عن حلول لتعميم برنامجه بالتنسيق مع وزارة التربية على المدارس الرسمية. ويلفت إلى "أنّ فريقنا هو من يدرّس البرنامج لـ 11 ألف تلميذ في أكثر من 80 مركزاً ومدرسة خاصة منتشرة على كل الأراضي اللبنانية". يرفض سعد إعطاء أسماء المدارس الخاصة والمدارس الرسمية الخمسة التي طبقت البرنامج مجاناً في عام 2014 ـ 2015، مشيراً إلى أنها منتشرة في لبنان، في حين أن الموافقة للمدارس الرسمية أتت لقضاء المتن فقط. كذلك لم يشأ سعد الحديث عن السعر الذي يبيع به البرنامج للمدارس، مشيراً إلى أن بعض هذه المدارس متعاون ويدفع نصف كلفته نيابة عن التلميذ، والبعض الآخر وضع الكلفة في صلب القسط.
يُسوَّق البرنامج على أنه يتيح للتلاميذ المشاركة في مباراة عالمية وإثبات قدرات متفوقة وعبقرية، وهو ما يتبناه تعميم الوزير في حيثياته أيضاً. إلّا أن بحثاً بسيطاً على مواقع البرنامج نفسه يظهر أن عدد الدول المشاركة في المسابقة العالمية الأخيرة في الهند كان 22 دولة وليس 55 دولة كما روج البرنامج للمباراة، كذلك إن التلميذ الذي أعلنه المعهد بطلاً للعالم عن فئة D في مرتبة الـ CHAMPION هو واحد من ستة طلاب من الهند والمملكة العربية السعودية حازوا الجائزة نفسها. أما جائزةCHAMPION GRAND في الفئة نفسها، فكانت من نصيب الطالب الإيراني سيدي سوغاند.




توقيف البرنامج في مصر

في عام 2008، أوقفت وزارة التربية والتعليم في مصر البرنامج نفسه نهائياً "لعدم جدواه في تنمية ذكاء الأطفال، ولكونه ينمي المهارة الحسابية فقط"، بحسب ما أكد آنذاك مستشار الوزير أسامة إسماعيل. وأضاف أن الوزارة كانت قد طلبت أكثر من مرة من الشركة التوقف إلى حين تقويم التجربة من دون جدوى. كذلك خرج المستشار العام للشركة، حسن هيكل، إلى الإعلام ليعترف قائلاً: "إننا ضحكنا على الناس ولم أكن أعرف في البداية، ولكن عندما اكتشفت ذلك قررت أن أبرئ ذمتي وأحذر الناس الذين ألحقوا أبناءهم بالبرنامج تحت وهم تنمية الذكاء وأنهم سيكونون عباقرة». وأكد أنّ البرنامج لا علاقة له بالذكاء، بل فقط ينمي مهارة الحساب عند الأطفال، مشيراً إلى أن فوز الأطفال المصريين في المسابقة وحصولهم على المراكز الأولى في الذكاء على مستوى العالم خدعة من الشركة للترويج للبرنامج، وقد كُرِّرَ ذلك في السعودية والسودان.
وكان الناشط المصري محمود العسقلاني، قد تقدّم باسم حركة «مواطنون بلا غلاء» ببلاغ للنائب العام يتهم فيه الشركة هناك بممارسة نوع من الاحتيال والنصب على المواطنين، وطالب بالتحقيق في تورط وزارة التربية في الدعاية للشركة والسماح لها بالتدريس داخل بعض المدارس من دون دراسة كافية لفوائد البرنامج على الأطفال، إلى جانب وزارة الاستثمار التي أعفت الشركة من الضرائب لمدة 5 سنوات بحجة أنها تنقل التكنولوجيا. وسأل: «هل هذا العداد الخشبي (الأباكوس) هو التكنولوجيا التي يجري نقلها إلى مصر، وهل تستحق شركة هدفها الربح الإعفاء الضريبي، وأين حق الدولة في ضريبة المبيعات التي حققتها الشركة، بعدما حصدت في عام واحد أكثر من 4 ملايين وستمئة ألف جنيه من استغلال اسم الوزارة وتكريم الوزير للأطفال في دعايتها عن البرنامج وتسعى إلى الحصول على ملايين جديدة من أموال الشعب؟».