لم تُخالِف نتائج الانتخابات الإسرائيلية معظم التقديرات التي سبقتها: لا أغلبية مطلقة لرئيس حكومة العدو، بنيامين نتنياهو، حتى الآن، مقابل تشرذُم في صفوف منافِسيه، يحول بينهم وبين القدرة على التغيير السياسي. والنتيجة، كما تبدو بعد أيّام من تَشكُّل «الكنيست» الجديد، هي عود على بدء، وما لم يحدث تغيير في التموضعات السياسية التي من بينها تناقضات يصعُب تجاوزها، فالاحتمال مرتفع كي يتوجّه الإسرائيليون من جديد إلى انتخابات مبكرة باتت من أبرز سمات الحياة السياسية في الكيان العبري. من أصل 120 مقعداً في «الكنيست» الجديد، حاز معسكر نتنياهو 59 مقعداً، أي دون الأغلبية المطلقة بمقعدَين. أمّا المقاعد الباقية، وهي 61، فتوزّعت على معارِضيه الساعين إلى إسقاطه بواقع 57 مقعداً، مقابل أربعة مقاعد لـ«القائمة المُوحّدة» (راعم) برئاسة منصور عباس، المنشقّ عن «القائمة المشتركة» لأحزاب فلسطينيّي 1948 (6 مقاعد)، والذي لا يعارض الانضمام إلى أيٍّ من المعسكرين.معضلة الانتخابات الحالية شبيهة بما أفرزته سابقاتها. إذ إن «الفيتوات» المتبادلة بين الأطراف لا تزال طاغية على المشهد السياسي، بعد فرز الأصوات وتوزيع المقاعد على المتنافسين، مع اختلاف هذه المرّة في أن فلسطينيّي 1948، على رغم تشرذمهم، باتوا هم «بيضة القبّان»، تماماً كما كان حال حزب «إسرائيل بيتنا» (7 مقاعد) في الانتخابات الأولى والثانية. ويشمل معسكر نتنياهو كلّاً من «الليكود» (30 مقعداً)، والأحزاب «الحريدية» (16 مقعداً)، وكذلك حزب «يمينا» برئاسة نفتالي بينت (7 مقاعد)، والحزب الصهيوني الديني الأكثر تطرُّفاً في إسرائيل (6 مقاعد)، فيما قائمة «راعم» لا تعارض الانضمام إلى حكومة برئاسة نتنياهو وقيادة اليمين المتطرّف، بل إن عباس مستعدّ لتأييدها من خارج الائتلاف، لكن إن حصل ذلك فسيواجِه نتنياهو مشكلة انسحاب الأكثر تطرّفاً من معسكره، كونهم يرفضون أيّ حكومة تستند إلى أغلبية مبنيّة على مشاركة فلسطينيّي 1948، سواء جاءت هذه المشاركة مباشرة أو بالمواربة.
على ذلك، يتوجّه زعيم «الليكود»، عبر مندوبيه، نحو التواصل مع أحزاب وكيانات سياسية في المعسكر المضادّ، علّه يفلح في تليين مواقفها عبر إغراءات لا يُعرف إن كان قادراً عليها، وفي المقدّمة حزب «العمل» (7 مقاعد) وحزب «أزرق أبيض» (8 مقاعد)، وإن كانت احتمالات أن ينضمّا إلى حكومة برئاسته مُقلّصة جدّاً، بل يراها البعض غير واردة بالمطلق ما لم يُقدِم نتنياهو على تنازلات كبيرة جدّاً، يصعب عليه تجاوُز تبعاتها. ولا تقتصر التعقيدات أمامه على ذلك، بل تمتدّ إلى داخل المعسكر المؤيّد له أيضاً، حيث ثمّة مَن يتوق إلى إسقاطه، وازدادت شهيّته لذلك مع تعذُّر فوز نتنياهو بالأغلبية المطلقة. وفي مقدّمة هؤلاء رئيس حزب «يمينا»، الذي يدرك أن ائتلافه مع «بيبي»، حتى وإن كان ثمنه وزارة الأمن التي كانت مطلباً رئيساً له في حكومات سابقة، هو تذكرة سقوط له في أيّ انتخابات مقبلة، خاصة أنه يَطرح نفسه بديلاً لقيادة اليمين. وعليه، سيكون تنازُل بينت مُحرِّكاً لنتنياهو لإيذائه وتقويض مكانته عبر تهميشه والإضرار به، مهما كانت الحقيبة أو الحقائب التي سيمنحه إيّاهاً إن ائتلف معه. وتجربة وزارة الأمن، التي سعى إليها بينت كونها تُعزّز مكانته لدى اليمين، أضرّت به أكثر ممّا استفاد منها، بفعل نتنياهو نفسه، وهي نتيجة لا تغادر تفكيره، خاصة أن «الإنجازات» كانت تُسنَد إلى رئيس الوزراء، فيما الإخفاق يكون من نصيبه هو. وهذا أيضاً ما حصل مع غانتس، وقَبْله وزير الأمن السابق موشيه يعلون، وكلّ مَن أفرغ نتنياهو منصبه من معناه. ومن هنا، لا يُستبعد أن يغادر رئيس «يمينا» معسكر نتنياهو إن وَجد عرضاً مناسباً في المعسكر المضادّ، شرط أن لا يكون مبنيّاً على الائتلاف أو المساندة من ممثّلي فلسطينيّي 48. على المقلب الثاني، حيث كتلة إسقاط نتنياهو (61 عضواً من بينها حصّة «الموحّدة»)، يبدو من المتعذّر على تلك الأحزاب الاتفاق في ما بينها، خصوصاً لوجود أحزاب اليمين التي تُمانع الائتلاف أو تلقّي المساعدة في إسقاط نتنياهو من أيٍّ من القائمتَين التابعتَين لفلسطينيّي 48، وفي مقدّمة أولئك الممانعين حزب «أمل جديد» برئاسة غدعون ساعر المنشقّ عن «الليكود»، وكذلك «إسرائيل بيتنا» برئاسة أفيغدور ليبرمان.
بالنتيجة، لا تشير التموضُعات السياسية، إلى الآن، إلى إمكانية تشكيل حكومة من أيٍّ من المعسكرين، لكن هل تحمل الأيام المقبلة تغييراً ما يؤدي إلى قلب النتيجة؟ الاحتمالات واردة، بل ومعقولة، وإن كانت غير واضحة إلى الآن. حتى الخامس من الشهر المقبل، سيسعى أقطاب المعسكرَين إلى تشكيلاتٍ ما تتيح لهما الفوز بالتكليف، بغضّ النظر عن مهمّة التأليف نفسها الأكثر تعقيداً. هذه هي الآن معركة نتنياهو، الذي يبدو، خلافاً للجولة الرابعة من الانتخابات، معنيّاً بأن يُكلَّف ابتداءً، ومن موقع التكليف تتاح له فرص تذليل العقبات، على رغم إدراكه صعوبة المهمّة. على أن هذا التكليف هو هدف معارضيه أيضاً، وفي المقدّمة أقواهم وأكثرهم تمثيلاً في «الكنيست» الجديد، رئيس حزب «يش عتيد» برئاسة وزير المالية السابق، يائير لابيد، الذي احتلّ المرتبة الثانية من حيث عدد المقاعد بـ17 مقعداً، بعد «الليكود» الذي نال 30 مقعداً.
على الهامش، ثمّة معركة، أو بالأحرى معارك سياسية، مرتبطة بالحكومة ومرحلة ما بعد النجاح أو الفشل في تأليفها، تماماً كما حصل في الجولات الانتخابية السابقة. وفي مقدّمة تلك المعارك رئاسة «الكنيست»، حيث تكمن جملة سيناريوات مفتاحية متّصلة بالتأليف والتكليف، وكذلك توزيع اللجان التي لبعضها ارتباط وثيق بمرحلة فشل التأليف، فضلاً عن مصير اقتراح ليبرمان العاجل، الذي يريد من خلاله منْع نتنياهو من التكليف فالتأليف، عبر سَنّ قانون يمنع أيّ متّهم بجرائم رشى وفساد من تولّي رئاسة الحكومة. وهو المقترح نفسه الذي سقط في الانتخابات الرابعة، بعد انشقاق حزب «أزرق أبيض» وانضمام المنشقّين برئاسة بني غانتس إلى ائتلاف نتنياهو.
مَن ينجح أوّلاً في تجنيد المؤيّدين للفوز بالتكليف، سيكون هو الفائز في المعركة الأولى


مَن ينجح أوّلاً في تجنيد المؤيّدين للفوز بالتكليف، سيكون هو الفائز في المعركة الأولى بين المتنافسين، تمهيداً للمعركة الثانية والأصعب، المتمثّلة في تشكيل ائتلاف يحظى بالأغلبية المطلقة، من بين كيانات لا تتّفق في ما بينها لدى المعسكرين، وإن كانت الفرضيات النظرية تتحدّث من الآن عن انشقاقات، ثَبُت في الماضي أنها ممكنة عملياً (أزرق أبيض). حتى الخامس من نيسان/ أبريل المقبل، ستكون المعركة على كسب الأصوات في الاستشارات شبه الملزمة لدى الرئيس الإسرائيلي، رؤفين ريفلين، هي المُتقدِّمة على ما سواها في المشهد السياسي، الذي تتساوى فيه الاحتمالات بين النجاح في التوصُّل إلى حكومة ما تبدو صعبة التحقُّق وفق المعطيات الحالية، أو الذهاب إلى انتخابات خامسة.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا