حين أبعدوه عن المهنة التي يحبّها، بدا أنّ نزيه خاطر (1930 ـــ 2014) فقد الهواء الذي كان يُبقيه على قيد الحياة والكتابة. تدهورت صحته، ودخل المستشفى أكثر من مرة، إلى أن فارق الحياة أمس. لا علاقة مباشرة بين المرض والتوقف عن الكتابة طبعاً. لكنّ توقيت الموت أثناء ذلك يجعل فكرة الغياب مضاعفة. كأن الموت استسهل القبض على الناقد الكبير الذي عاش غياباً تعسفياً أصغر من غيابه الشامل والنهائي الآن.
غاب نزيه خاطر عندما لم تعد مقالته تبدأ يومها مع يوميات المدينة التي أحبها، ولطالما سمّاها «مختبر الحداثة»، وتحدث عن كونها «مدينة بمدينتين»، مدينة لبنانية وعاصمة عربية تجتذب الكتاب العرب ونبراتهم المختلفة. تطبع لهم أعمالهم، وتعرض لوحاتهم، أو ترحب بهم في مقاهيها على الأقل.
الناقد الذي صنعت بيروت اسمه وصنع هو جزءاً من صورتها، ظل يتأمل صورة المدينة وتحولاتها الأخيرة، من دون أن يكتب ذلك كطبقات تُضاف إلى ما راكمه سابقاً على امتداد نصف قرن من اقتفاء وأرشفة آثار ومنجزات الحياة الثقافية كما بدت في المسرح والرسم أولاً، وفي النصوص الشعرية والروائية تالياً. علاقته بالمدينة جعلت نصه النقدي مدينياً لناحية حيويته وطزاجته ومطاردته لطموحات الأسماء الجديدة وجرأة أطروحاتهم، واحتفاظه بصلةٍ حارة ومتينة مع تجارب الرواد والمكرّسين.
في الحالتين، اكتسب عداواتٍ كثيرة وصداقات أقل، ولكنه ظل مخلصاً للكتابة واشتراطاتها الأسلوبية أكثر من انصياعه للمجاملات والمنافع العابرة. في بيروت التي يصعب تخيّل نصه بعيداً عنها، ربى نزيه خاطر جملته النقدية التي ولدت بالتزامن مع ولادة حداثات متعددة في المسرح والغناء والصحافة والشعر والرسم. كانت بيروت تستهل عصرها الذهبي، وكان النقد يحاول مجاراة ما يحدث، وكان «من حظي أنه لم يكن هناك من تراث نقدي في الفنون التي صُنفت حداثية في بيروت»، بحسب تعبير نزيه خاطر. بدأ الكتابة بالفرنسية أولاً في جريدة Le Soir التي توقفت عن الصدور بسبب أحداث عام 1958، ثم في «لوريان لوجور» مع جورج نقاش.
جملته النقدية
ولدت بالتزامن مع ولادة حداثات متعددة في المسرح
والغناء والصحافة والشعر والرسم

بدايته الحقيقية كانت عام 1964، حين دعاه الراحل أنسي الحاج إلى الكتابة في جريدة «النهار» (بقي حتى عام 2010)، وصار واحداً من «كائنات النهار»، حيث ستصبح حياته ونصوصه وأفكاره محكومة بالجريدة ومسارح المدينة وغاليرياتها ومقاهيها. بين الجريدة وشارع الحمرا، أمضى نزيه خاطر حياته كلها تقريباً. في تلك المسافة وذاك المزاج، كانت ثقافة المدينة تُصنع وتتراكم وتنضج. لا نكاد نعرف صورة أخرى لنزيه خاطر بقبعته الشهيرة، وهو منكب على كتابة مقال في مقهى، أو يستمتع بفنجان القهوة ومراقبة الحياة التي تجري في شارع الحمرا، أو يدردش مع صديق أو صديقة. عاش نزيه في الحمرا التي هي قلب بيروت الغربية التي انتمى إليها بالهوية الثقافية والممارسة النقدية، وصنع معارضته الشخصية للحرب بهذا الانتماء. الحرب نفسها كانت لحظة مفصلية بين نبرات فنية ونصية سابقة وبين نبرات وحساسيات ستولد وتنضج لاحقاً. وكانت الكتابة النقدية، كما الممارسات الإبداعية الأخرى، حضناً لهذه التحولات التي تصيب جغرافيا المدينة وحضورها وحداثتها، وارتطام كل ذلك بعنف الحرب وعبثيتها. تحولاتٌ تسربت بسرعة إلى كتابات نزيه خاطر، وامتزجت مع تأملاته ورؤيته لما جرى. بالنسبه إليه، «صارت هناك بيروتان، الأولى امتداد لثقافة الستينيات، والثانية تتشكل في تجارب الشبان المقبلين على الفنون والممارسات المعاصرة». بين هاتين البيروتين، حافظ الناقد المخضرم على شباب نبرته النقدية وحيوية خلاصاته التي عاصرت جيل المؤسسين، وبات عليها أن تحتكّ بأجيال أصغر منها وأكثر جرأة وتهوراً أيضاً، بينما رأى هو نفسه مطالباً بألا يتخلف عن معاصرته للمدينة التي تتغير أمامه، وأن يطوِّع نبرته لمواكبة «الظواهر الجديدة التي تنتجها المدينة». المدينة هي المفردة التي ظلت حاضرة في خلفية وطيات هذه الكتابة النقدية التي أراد لها أن تكون فعلاً ثقافياً يومياً، ولكنه يتجاوز اليومي إلى ما هو جوهري ومستمر في حياة المدينة ومشهدياتها. «المدينة التي يصعب الحديث عن مدينة واحدة فيها»، والتي «تنمو بين خيانة ذاتها والإخلاص لذاتها»، والتي «أخذناها إلى حيث شعرنا أن الحلم في متناولنا»، بحسب تعبيره. لم يحدث ذلك في الكتابة وحدها، فقد كان نزيه خاطر موجوداً ضمن الاحتياطي الخصب للمدينة. نتذكر أنه أدار غاليري «وان» مع الراحل يوسف الخال، وأسّس «مسرح بيروت» مع آل سنو وآخرين، وساهم في تنظيم معارض تشكيلية للكثير من الفنانين، وكان عضواً في «متحف سرسق» أكثر من مرة، إضافة إلى مشاركاته في لجان مهرجانات لبنانية وعربية عديدة، وتدريسه للفنون الجميلة في الجامعات اللبنانية.
ابن الكاتب والمؤرخ المعروف لحد خاطر، ولد في بيت شغوف بالفكر والثقافة. تخصص في علم المتاحف، وأنجز دراسة الدكتوراه في الـ«سوربون» برسالته «المسرح اللبناني بين ثورتين: 1958 ـــ 1975»، ومزج معرفته بما يستجد من فنون ونصوص وظواهر. كتب نزيه خاطر مئات المتابعات والتغطيات النقدية، ولكنه اشتغل بطريقة تجعل هذه المتابعات أكثر ديمومة من شروط الصحافة اليومية. كانت «الصحافة أدباً على عجل»، كما قيل يوماً في وصف ما يبقى ويستمر ويخلّد في مهنة الصحافة السريعة. اليومي تحول إلى فنّ شخصي ومواكبة طبيعية لما تقترحه المدينة. القصد أن جملة نزيه خاطر كانت جملة ناقد، كما هي جملة الشاعر والروائي مثلاً. وكان النقد نفسه مشغولاً بأسئلة شائكة وأبحاث وتأملات عميقة. لم يكن نصه النقدي محكوماً باللهاث وراء اللوحة أو المسرحية أو الكتاب. تخلّص النقد من التبعية وصار حواراً بين ممارستين ووجهتي نظر، وباتت نصوص الآخرين ولوحاتهم وعروضهم فرصة لاختبار الذات ومرونة الجملة الشخصية وقدرتها على التجدد والتطور.
على صفحته في فايسبوك، كتب قبل رحيله «عندما أكتب الآن، أشعر أنني أكتب ضد نزيه خاطر الأمس». جملة تبدو أقدم من تاريخ وضعها على الموقع الأزرق، وتختزل جوهر النقد الذي كتبه نزيه خاطر الذي أوصله إيمانه بالتجدد إلى أن يكون ضد ماضيه النقدي، وأن يُبقي معجمه ومخيلته مع الممارسات المعاصرة التي ظل شغوفاً بما تقترحه من تحديات على الفن والمسرح والكتابة، وأن تعبر نبرته الموجات والمنعطفات التي تحدث وتُبتكر، وتلتصق بما هو متحول ومتجدد في هذه الموجات والمنعطفات.
في الشهور التي سبقت رحيله، لم يعد يُرى كثيراً في المقهى الحالي القائم محل مقهى «الهورس شو» القديم، ولم تعد المدينة والشارع الأشهر فيها يستسلمان لتأملاته من خلف الزجاج. كأن نزيه خاطر تدرّب على غيابه قبل أن يفاجئه في المدينة التي كما قال في أحد حواراته الأخيرة أنّها « تستولد ذاتها ولا تتكرر»، ثم أضاف بنبرة مخلوطة بمرارة: «إنها البداية والنهاية، ونحن رحّالة».

http://al-akhbar.com/node/51008

يمكنكم متابعة حسين بن حمزة عبر تويتر | @hbinhamza




يصلّى على جثمانه في الثالثة والنصف من بعد ظهر اليوم في «كنيسة مار يوسف» في «مدرسة الحكمة» (الأشرفية). تُقبل التعازي يومي الجمعة والسبت في صالون الكنيسة من الساعة الحادية عشرة قبل الظهر حتى السادسة مساءً، ويوم الأحد في منزله الكائن في رويسة النعمان (قضاء عاليه).