بعد شهرٍ ونصف شهر من تسلُّمه منصب الرئاسة، بدأت تتّضح سياسة إدارة جو بايدن في الخارج، حيث سيركِّز على الصين بوصفها التحدِّي الجيوسياسي للقرن الحادي والعشرين، بدلاً من إضاعة الوقت والموارد في المنطقة. وفي الداخل، ينحصر كلّ همِّه في استتباب الديموقراطية التي أقرّ أنتوني بلينكن مجدَّداً بهشاشتها، في ظلّ تهديدات الإرهاب الداخلي التي لا تفتأ تتزايد. وبين هذه وتلك، يهمّ أميركا ابتدءاً، احتواء القوى المنافسة، لاستعادة «مكانتها» في عالم متغيّر، تعتقد بأنه لن يستقيم لصالحها إلّا بعودتها للتربُّع على عرشه؛ وفي الموازاة مواجهة تحدّيات داخل منقسِم، عاد دونالد ترامب أخيراً ليجلّيها، واعداً بالعودة إذا تيسّرت
حدّد وزير الخارجية الأميركي، أنتوني بلينكن، الذي تزامن خطابه مع نشر البيت الأبيض وثيقة الدليل الاستراتيجي الموقّت للأمن القومي، أوّل من أمس، الخطوط العريضة لسياسة إدارة جو بايدن الخارجية، مُركّزاً على الصين بوصفها «أكبر تحدٍّ جيوسياسي» للقرن الحادي والعشرين، ومشيراً إلى استعداد الولايات المتحدة لمجابهتها متى دعت الحاجة، فيما أكّدت الوثيقة التي تعطي ملامح إرشادية عامّة عن توجّهات البيت الأبيض الساعي إلى «تجديد المزايا الأميركية»، أن واشنطن ستعزِّز حضورها العسكري في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وأوروبا، في ظلّ صعود القوى المنافسة، على أن تقتصر مهمّاتها في منطقة الشرق الأوسط على تلبية احتياجات محدّدة.
«سنقوم بإدارة أكبر تحدٍّ جيوسياسي في القرن الحادي والعشرين: علاقتنا مع الصين»؛ هذا ما أكّده بلينكن في أوّل خطاب رئيسي له، رأى فيه أن «الصين هي الدولة الوحيدة ذات القوّة الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية التي من شأنها أن تهدّد جدّياً المنظومة الدولية المستقرّة والمفتوحة... جميع القواعد والقيم والعلاقات التي تجعل العالم يسير كما نريده». ومن هنا، ستكون العلاقات مع العملاق الآسيوي «تنافسيّة عندما ينبغي لها أن تكون كذلك، ومتعاونة متى تكون قادرة، ومخاصمة عندما يجب أن تكون. وسوف نتحاور مع الصين من موقع قوّة». وفي سياق آخر، كرّر بلينكن ما ورد حرفيّاً في وثيقة الأمن القومي، من أن بايدن سيسعى إلى تجنُّب العمل العسكري، و»في حالات مستقبليّة، عندما يتعيّن علينا القيام بتحرّك عسكري، سنقوم بذلك فقط عندما تكون الأهداف والمهمّة واضحة ويمكن تحقيقها ومتماشية مع قيمنا وقوانيننا، وبموافقة مستنيرة من الشعب الأميركي... وسنفعل ذلك بموازاة الدبلوماسية». وعَبّر عن القلق إزاء «تراجع الديموقراطية» في أنحاء العالم، ومنها في الولايات المتحدة، لكنه أكّد أن الرئيس الأميركي لا يرغب في إرساء الديموقراطية في العالم «من خلال التدخُّلات العسكرية المكلِفة أو بمحاولة إطاحة أنظمة مستبدّة بالقوّة»، مقرّاً بـ»(أننا) حاولنا هذه الأساليب في الماضي. لكن، وعلى رغم النيات الحسنة، فإنّها لم تنجح».
سيتركّز الوجود العسكري الأميركي في منطقة المحيطَين: الهندي والهادئ، وأوروبا


الإشارة إلى الدبلوماسية تكرّرت كثيراً في متن الوثيقة الواقعة في 24 صفحة، والتي تُعدّ أوّل توجيه رسمي للإدارة في شأن قضايا الأمن القومي، ويُتوقَّع أن تتبعها استراتيجية الأمن القومي الرسمية، واستراتيجية الدفاع الوطني للبنتاغون. وفي مقدّمتها، كتب بايدن: «الديموقراطية الأميركية ميزتنا الأساسية» في مكافحة التحدّيات مثل الصين وروسيا، قائلاً: «نحن في خضمّ نقاش تاريخي وأساسي حول الاتجاه المستقبلي لعالمنا. هناك من يجادل بأنه، في ضوء كلّ التحدّيات التي نواجهها، فإن الاستبداد هو أفضل طريق للمضيّ قدماً. وهناك من يدرك أن الديموقراطية ضرورية لمواجهة جميع تحدّيات عالمنا المتغيّر. يجب أن نُثبت أن نموذجنا ليس من مخلّفات التاريخ؛ وإذا عملنا مع شركائنا الديموقراطيين، بقوّة وثقة، فسنواجه كلّ تحدٍّ، ونتفوّق على كلّ متحدٍّ».
بصورةٍ عامة، تُقدِّم الوثيقة توصيات غير مكتملة تحاكي الأولويات الأميركية في عالمٍ متغيّر، «يجب أن تشكّل فيه الولايات المتحدة مستقبل النظام الدولي»، واصفةً هذه المهمّة بـ»الملحّة». وجاء في التقرير: «من خلال تعزيز مصالح أميركا على الصعيد العالمي، سوف نتّخذ خيارات ذكيّة ومنضبطة في ما يتعلّق بالدفاع الوطني والاستخدام المسؤول لجيشنا، مع الارتقاء بالدبلوماسية كملاذ أوّل. ولكن الولايات المتحدة لن تتردّد في استخدام القوّة عند الحاجة للدفاع عن مصالحنا الوطنية الحيوية. سنضمن أن قوّاتنا المسلّحة مجهّزة لردع خصومنا والدفاع عن شعبنا ومصالحنا وحلفائنا وهزيمة التهديدات. لكن استخدام القوة العسكرية يجب أن يكون الملاذ الأخير وليس الأول. يجب أن تكون الدبلوماسية والتنمية وفنّ الحكم الاقتصادي الأدوات الرئيسية للسياسة الخارجية الأميركية». وفي إشارة إلى الحروب الأميركية المفتوحة، أضافت الوثيقة إن «الولايات المتحدة يجب ألّا تخوض، ولن تشارك، في حروب أبدية أودت بحياة الآلاف، وأهدرت تريليونات الدولارات. سنعمل على إنهاء أطول حرب أميركية في أفغانستان بشكل مسؤول، مع ضمان ألّا يصبح هذا البلد مرّة أخرى ملاذاً آمناً للهجمات الإرهابية ضدّ الولايات المتحدة».
وفي وثيقتها، لفتت إدارة بايدن إلى أن «الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في منطقة المحيطَين الهندي والهادئ، وأوروبا، من أجل ردع أعدائنا والدفاع عن مصالحنا». وفي الشرق الأوسط، «سنترك القدر اللازم من القوّة للقضاء على الشبكات الإرهابية، وردع العدوان الإيراني، وحماية المصالح الأميركية الرئيسية الأخرى». وأضافت إنها «ستكون معنيّة بأمن إسرائيل، وسوف تردع، مع دول المنطقة، تهديدات إيران لسيادة وسلامة أراضي الدول الأخرى، وستُعزّز جهودها لمواجهة القاعدة وداعش»، «لكننا لا نعتقد بأن حلّ مشاكل المنطقة يكون باستخدام القوّة العسكرية، ولن نعطي شيكاً على بياض لشركائنا الذين يتبعون سياسات تتعارض مع المصالح والقيم الأميركية في الشرق الأوسط، ولهذا السبب سحبنا دعم الولايات المتحدة» للحرب على اليمن، كما ادّعت. ورأت الوثيقة أن الصين باتت «المنافس الوحيد المحتمل القادر على الجمع بين قوّته الاقتصادية والدبلوماسية والعسكرية والتكنولوجية، لتشكيل تحدٍّ مستدام للنظام الدولي»، فيما أشارت إلى «التهديد» الذي تفرضه روسيا «التي لا تزال تصرّ على تعزيز نفوذها العالمي، والقيام بدور يتسبّب في حالة من الفوضى على الساحة العالميّة».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا