تسارعت وتيرة جهود تسوية الأزمة الليبية، بقيادة أميركية داعمة للدور الأممي هذه المرّة، من أجل تسوية ملفات متعدّدة ومتوازية (أبرزها إقامة مؤسّسات دولة منتخَبة وشرعية، والإسراع في ملف توحيد القوات المسلّحة والأجهزة الأمنية)، برؤية شمولية طالما افتقر إليها المعنيّون. وإذا ما وصلت تلك الجهود إلى خواتيمها، فسيترافق اكتمال مسار الحلّ (إجراء الانتخابات) مع الذكرى السبعين لاستقلال ليبيا في الـ24 من كانون الأول/ ديسمبر 2021. في مثل هذا التاريخ، نَقَل المقيمان البريطانيان في إقليمَي طرابلس وبرقة، والمقيم الفرنسي في فزان بقية صلاحياتهم إلى حكومة ليبيا الفدرالية، بمقتضى قراراتٍ مَرّرتها الأمم المتحدة في العامين 1949 و1950، وتَقلّد الأمير محمد إدريس السنوسي، الذي اعترفت به بريطانيا أميراً على برقة في حزيران/ يونيو 1949، قيادة البلاد. يمكن فهم الحضور الأميركي في ليبيا عند استدعاء ذكرى الاستقلال، الذي مَثّل حالة أول دولة أفريقية تحصل على استقلالها من الاستعمار الأوروبي، عبر الجمعية العامة للأمم المتحدة، بحسب ما لاحظ رونالد بروس سان جون (R. B. St. John) في مؤلّفه حول قرنين من العلاقات الليبية - الأميركية (2002)، كنتيجة هشّة للمساومات والتسويات والاستحقاقات اللاحقة، ولا سيما بالنسبة إلى الولايات المتحدة التي كَوّنت مصالح اقتصادية وسياسية لافتة في ليبيا بعد الحرب العالمية الثانية. قاد ذلك إلى هيمنة شبكة معقّدة من المطالب الداخلية والخارجية أسهمت في بقاء حالة من عدم الاستقرار في البلاد لمدّة 18 عاماً، تَولّى خلالها رئاسة الوزراء 11 مسؤولاً، وملكٌ واحد، حتى وصول معمر القذافي إلى السلطة في العام 1969، وما تلاه من تقلّبات وتجاذبات حادّة في السياسات الأميركية تجاه ليبيا استمرّت أكثر من أربعة عقود، وامتدّت تداعياتها إلى الحسابات الحالية في تسوية الأزمة في هذا البلد، عبر مساومات تبدو أكثر تماسكاً وتأثيراً في القوى الدولية والإقليمية الفاعلة.

عودة واشنطن
بعدما ذهبت تحليلات كثيرة، أغلبها لمُعلّقين أميركيين، إلى تصوّر نوع من الفتور في مقاربة إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، إزاء الأزمة الليبية، بادرت هذه الإدارة، في نهاية كانون الثاني/ يناير الفائت، إلى إظهار انخراط كامل وقوي في الأزمة والمحادثات المتعلّقة بها؛ إذ أطلقت واشنطن، على لسان ريتشارد ميلز نائب سفيرها في الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن، دعوة كلّ من روسيا وتركيا والإمارات إلى "الوقف الفوري لتدخلاتها العسكرية في ليبيا بمقتضى اتفاق وقف إطلاق النار، وقبول السيادة الليبية مع توجّه البلاد لتوحيد حكومتها، وعقد الانتخابات، وإنهاء سنوات من الصراع".
بالتزامن مع ذلك، بدت لهجة الممثّلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة في ليبيا بالإنابة، ستيفاني وليامز (الدبلوماسية الأميركية سابقاً)، أكثر حسماً بوجوب مغادرة "جميع المقاتلين والمرتزقة الأجانب" الذين كان يفترض مغادرتهم ليبيا في الـ23 من كانون الثاني/ يناير، "الآن". ودفعت وليامز، بقوة، نحو إعادة العمل تحت مظلّة خريطة الطريق لاتفاق السلام في ليبيا، المكوّنة من 55 نقطة، والتي صادقت عليها 12 قوة كبرى ودول أخرى في برلين قبل نحو عام، لتمكين الأمم المتحدة من التحرّك مباشرة مع الأطراف للتوصّل إلى تسوية، والبناء على "خريطة طريق" تونس (تشرين الثاني/ نوفمبر 2020)، والتي رسمت الطريق لاستعادة "الشرعية الديموقراطية"، وتحديد الـ24 من كانون الأول/ ديسمبر 2021 موعداً لعقد الانتخابات الوطنية، والاتفاق على إقامة سلطة تنفيذية موحدّة وانتقالية، والاستمرار في الإصلاحات الاقتصادية والمالية بوتيرة متسارعة.
ويُمثّل دعم واشنطن القوي لدور الأمم المتحدة في جولات المحادثات الليبية - الليبية، وآخرها في جنيف، واختيار الوفود (5 شباط/ فبراير) عبد الحميد دبيبة رئيساً للوزراء في الحكومة الانتقالية وإمهاله 21 يوماً لتكوين حكومته وتقديمها برنامج العمل لمجلس النواب الليبي، عودة منطقية في واقع الأمر إلى الدور الأميركي التقليدي في ليبيا على خلاف التكهّنات "اللحظية".

رابحون وخاسرون
حظيت تطوّرات المسار الليبي الأخيرة بترحيب متباين من أطراف الأزمة التقليديين. ففيما وَجّه اللواء المتقاعد خليفة حفتر التهنئة لرئيس الوزراء المنتخَب، الذي كان مُقرّباً من القذافي، وأعضاء المجلس الرئاسي والشعب الليبي على مخرجات عملية الانتخابات، أعرب رئيس حكومة "الوفاق"، فائز السراج، عن تمنّياته بنجاح المؤسّسات التنفيذية الجديدة في مهمّتها، وسط تأكيدات مراقبين صعوبتها، ولا سيما في شرق ليبيا، إلى جانب توقُّع وجود معارضة معتبرة للحكومة في الغرب، ما يُعبِّر عن حقيقة أن انتخاب قائمة دبيبة (التي نالت 39 صوتاً من إجمالي 73 صوتاً) شكّل مفاجأة، حتى إلى أقرب المراقبين الليبيين، كانت مدفوعة في الواقع بمطالب إنهاء النخبوية والفساد وتردّي مستوى الخدمات العامة، أو منح فرصة للتجديد والمصالحة بحسب ويليامز، الأمر الذي يتّسق مع طبيعة هذه المؤسّسات الانتقالية، وينبئ بحدود صلاحياتها "في تسيير الأعمال".
على عكس التجارب السابقة، لا يُتوقّع جنوح حفتر إلى سياسات عنيفة


وعلى الأرض، مَثّلت اجتماعات اللجنة العسكرية "5+5" في مقرّها في مدينة سرت (5 - 7 شباط الجاري) خطوة مهمّة في مسار التسوية، لوضعها خريطة طريق عملية لتطبيق اتفاق وقف إطلاق النار، وفتح الطريق الساحلي لإعادة الحركة الطبيعية للمواطنين والسلع، والبناء على التقدُّم الذي تَحقّق في دورات اللجنة الستّ الماضية، واكتمال مناقشات نشر مراقبي الأمم المتحدة لدعم عملية مراقبة وقف إطلاق النار وآلية التحقُّق.
وترقّباً لأداء دبيبة إثر تكوين حكومته في الأيام القليلة المقبلة، لا يبدو حفتر خاسراً من بين كبار الفاعلين في الأزمة الليبية، خصوصاً لاستبعاد التصويت كلّاً من وزير الداخلية في "الوفاق"، فتحي باشاغا، المعروف بعدائه الصريح للرجل، ورئيس البرلمان المنعقد في طبرق، عقيلة صالح (الذي دعمته فرنسا ومصر بشكل واضح)، الذي سحب البساط من تحت حفتر داخلياً وبات مقبولاً إقليمياً إلى حدّ ما. يعني ذلك إتاحة هامش ضئيل للجنرال المتقاعد للبروز مجدّداً، من ناحية قبوله - كما متوقع - بصفقات "انتهازية" مع رئيس الوزراء ورئيس مجلس الدولة، مقابل دعمه لهما في مهمّتهما، وربّما لعب دور "صانع الملك" مجدّداً، وسط ما تَردّد عن تصويت موفديه لصالح دبيبة مقابل صالح في الجولة الثانية من التصويت. لكن على عكس التجارب السابقة، لا يُتوقّع جنوح حفتر إلى سياسات عنيفة، لاعتبارات تَغيُّر البيئة المحلية نسبياً، وما يمكن وصفه بحضور "عصا واشنطن الغليظة". وعليه، يُرجّح أن يتّبع حفتر سياسة براغماتية تماماً هذه المرّة، على الأقلّ حتى موعد الانتخابات المرتقبة، وقبولُه بدور أقلّ بروزاً سياسياً وإعلامياً.

النموذج اليوناني
تتقاطع مقاربة واشنطن مع أدوار مجموعة من حلفائها في الأزمة الليبية وملفّات إقليمية أخرى (مثل شرق المتوسط وإقليم الساحل الأفريقي). وقد واصلت فرنسا وتركيا، على وجه الخصوص، تبادل الاتهامات بالتدخل العسكري في ليبيا وعرقلة التسوية السياسية، بل ومطالبة كلّ منهما للأخرى بسحب قواتها وتدخلاتها تمهيداً لإنجاح هذه التسوية. ورَحّبت فرنسا، في بيان مشترك مع الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وإيطاليا، بالحكومة الانتقالية، لكنها حذّرت من صعوبة مهمّتها، ودعتها إلى أن تُقدِّم لليبيين الخدمات العامّة الأساسية. على أيّ حال، فإن التغيير الأبرز الذي يُعبّر عن مفاعيل التدخُّل الأميركي - حتى اللحظة - يَتمثّل في حالة اليونان التي تقع في الوقت نفسه في قلب التباين الفرنسي - التركي في أكثر من ملفّ أوروبياً ومتوسّطياً.
أعادت أثينا، قرب منتصف الشهر الجاري وبعد سبعة أعوام من تجميد علاقاتها الدبلوماسية مع طرابلس، مقاربتها "الإيجابية" تجاه ليبيا، بتنشيط قنواتها الدبلوماسية في العاصمة الليبية، وإعادة افتتاح سفارتها فيها، وبدء الإجراءات الضرورية لافتتاح القنصلية اليونانية العامّة في بنغازي، الأمر الذي اعتبره مسؤولون يونانيون رغبة من بلادهم في ممارسة دور فعّال في الإقليم "بعد سقوط السراج الذي وَقّع مذكّرة التفاهم التركية - الليبية غير القانونية لسرقة المياه الإقليمية اليونانية". ويبدو أن المقاربة الأميركية الجديدة هي الدافع الأول لأثينا لإعادة انخراطها في ليبيا، من بوّابة المؤسّسات المعترَف بها دولياً، الأمر الذي يمكن ملاحظته في تغاضي اليونان عن تقرّب دبيبة من الفاعلَين التركي والروسي بعد لحظات من انتخابه بتصريحات دافئة للغاية؛ وتفهّمها لانتخاب رئيس المجلس الرئاسي محمد المنفي، الذي تلقّى اتصالاً استثنائيًا من حليف اليونان في شرق المتوسّط، الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لتهنئته بانتخابه، على رغم أنه سبق ترحيل الأوّل خلال عمله سفيراً لبلاده في اليونان في نهاية العام 2019 على خلفية التقارب الليبي - التركي، مع ملاحظة أثينا لحقيقة أن المسؤولين الليبيين في المناصب الجديدة ذوو صلاحيات محدودة ولن يقدِموا على تغييرات تذكَر أو تهدّد مصالح اليونان تحديداً.
ويلاحَظ أن النشاط اليوناني في ليبيا يأتي وسط تقديرات للخارجية اليونانية الأخيرة (كانون الثاني/ يناير الفائت) بأن العقوبات الأميركية ضدّ تركيا "ستؤثّر على التوازن الحالي"، وأن تعديل اتفاق الدفاع اليوناني - الأميركي (MDCA) في العام 2019 سيُمكّن الولايات المتحدة من تفعيل عقوباتها ضدّ تركيا، ويوفّر لواشنطن، بحسب وزير الخارجية اليوناني نيكوس ديندياس، فرصة للفكاك من "الأسر الجيوسياسي" لتركيا. ويبدو أن التحرّك الأميركي واليوناني في ليبيا يتطابق في هذه المرحلة ويُلبّي الهدف الرئيس لليونان، وهو ضمان سيطرة قوات صديقة على الساحل الليبي المقابِل لجزيرة كريت، عبر منع إقامة قاعدة تركية، وإبطال قرار حكومة السراج المتعلّق بمذكّرة التفاهم مع تركيا.
وفيما تترقّب تركيا، التي دعا رئيسها رجب طيب إردوغان إلى صفحة جديدة في العلاقات مع الغرب المعنيّ بدوره بالأزمة الليبية وتهديداتها (وسط حالة عزلة متنامية على حدّ وصف الناطق باسم الرئاسة التركية إبراهيم قالن)، مآل مسألة العقوبات الأوروبية ضدّها في قمّة الاتحاد المقبلة (مارس 2021)، فإن موقفها في ليبيا سيواجه تحدّياً أميركياً حقيقياً، لصالح الدور اليوناني الأكثر اتّساقاً مع السياسات الأميركية - الأوروبية في المرحلة المقبلة، في ضوء المرونة التي تبديها الدبلوماسية اليونانية إزاء التطوّرات الحالية، مقابل جنوح إردوغان إلى علاقات وطيدة مع روسيا، ورجحان انهماك نظامه في الإصلاحات الديمقراطية والاقتصادية في البلاد في العام 2021.

ماذا بعد؟
يبدو أن التنسيق الغربي في ليبيا سيصل إلى مستوى مرحلي جديد، على نحو يُذكِّر، وإن بترتيب مغاير، بتوقيع المملكة المتحدة "معاهدة للصداقة والتحالف" مع ليبيا (تموز/ يوليو 1953)، واتفاق تعاون عسكرياً ومالياً، تلاه توقيع واشنطن اتفاقاً يحكم استخدام القوات الأميركية للقواعد العسكرية في ليبيا (أيلول/ سبتمبر 1954). كما تشير الدلائل الراهنة إلى أن الولايات المتحدة ستدفع بكامل قوتها من أجل حشد حلفائها سياسياً واقتصادياً خلف خريطة طريق الأمم المتحدة، وتضييق هامش مناورات القوى الإقليمية والدولية (ولا سيما الإمارات وروسيا، وفي سياق آخر تركيا، حليفة الولايات المتحدة). أمّا داخلياً، فإن الوصول إلى مؤسّسات حكم منتخَبة مطلع شباط/ فبراير الجاري يُمثّل خطوة مهمّة للغاية، وإن ظلّت مشروطة بمستوى أداء جيّد وقدرة على إقناع أطراف الأزمة (في الداخل والخارج) بتبريد الصراعات لصالح استكمال مسار التسوية السياسية، وهي قدرة تبدو قائمة بالفعل، ويُعزّزها إدراك هذه الأطراف جدّية التغيّرات الحالية، وحرص واشنطن على نفوذها في منطقة تقليدية من مناطق وجودها العسكري المباشر منذ عقود بعيدة.