لم تَجد تركيا وسيلةً للردّ على المواقف الأميركية المتتالية ضدّها في الآونة الأخيرة، أفضل من فتح دفاتر الماضي وتذكير الرئيس الجديد، جو بايدن، بأنه هو وباراك أوباما كانا وراء محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/ يوليو 2016. وهو تذكيرٌ وضع واشنطن مجدّداً في موقف دفاعي، حيث صدرت توضيحات على لسان أكثر من مسؤول لدفع التهمة. وبدأ «المسلسل»، كما بات معروفاً، مع تصريحات لوزير الداخلية التركي، سليمان صويلو، يتّهم فيها الولايات المتحدة بالوقوف وراء محاولة الانقلاب. وقال، في حديث إلى قناة «خبر غلوبال» التلفزيونية، الأسبوع الماضي، إن مَن يقف خلف محاولة الانقلاب ليس فتح الله غولين وحسب، بل أميركا أيضاً. وفي اليوم التالي، وسّع الوزير التركي دائرة الاتهام بحديث إلى صحيفة «حرييت»، بالقول: «من الواضح جدّاً أن واشنطن وراء أحداث 15 تموز. وبناءً على تعليماتهم، قام فتح الله غولين بتنفيذ المحاولة». يُذكر أن صويلو كان في خلال محاولة الانقلاب وزيراً للعمل والضمان الاجتماعي، وقد اتَّهم، بعد ساعات فقط من المحاولة، الولايات المتحدة بالوقوف وراءها. أمّا الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، فقد تجنّب حينها اتهام واشنطن مباشرة، وتحدّث في أعقاب ما جرى عن أنه لا يتّهمها، ولكن الشعب يعتقد ذلك.تركّزت الاتهامات التركية على ما نشرته مجلات وصحف أميركية قبل محاولة الانقلاب بقليل، عن استعدادات تجري في هذا السياق. ويضاف إلى ما سبق، تجنُّب إدارة أوباما إصدار أيّ موقف في الساعات الأولى التي تلت الانقلاب، وانتظارها اتّضاح نتيجة المحاولة لتُدينها. حينها، تذرّع وزير الخارجية جون كيري، بأن بلاده لا تمتلك معلومات عمّا جرى، وليس مناسباً بالتالي التعليق على ما يجري، مع تمنّياته بالاستقرار والسلام والاستمرارية في تركيا. أمّا الناطق الحالي باسم وزارة الخارجية الأميركية، نيد برايس، فردّ فوراً على اتهامات صويلو القديمة - الجديدة، قائلاً إنها «غير صحيحة»، و»إذا كان من ضرورة للتوضيح، فإن الولايات المتحدة لم يكن لها أيّ علاقة بمحاولة الانقلاب عام 2016. وقد دانت في حينه المحاولة. ما خلا ذلك، فإن الاتهامات خاطئة ولا تليق بحليف في حلف شمال الأطلسي وشريك استراتيجي للولايات المتحدة مثل تركيا». كما صدر بيان عن السفير الأميركي لدى تركيا، ديفيد ساترفيلد، عبّر فيه عن الأسف من اتهامات أنقرة، واصفاً إياها بـ»اللامسؤولة». لكن السفير تطرّق في بيان النفي إلى صفقة «أس-400»، لافتاً إلى أن بلاده اضطرّت إلى تطبيق قانون «كاتسا» في هذا الإطار، وفرض عقوبات على الجانب التركي. وكشف عن أن ما كانت تروّج له أنقرة عن احتمال تشكيل لجنة تركية – أميركية مشتركة للتوصّل إلى حلّ لمشكلة المنظومة الدفاعية الروسية، ليس موضع بحث ولن يكون. كما ذكّر بأن أميركا سوف تستمرّ في دعم قوات «قسد» في سوريا في مواجهة تنظيم «داعش». وفي مناسبة أخرى، قال ساترفيلد إن تغيير الموقف الأميركي من قضايا مثل «قسد» مرتبط بالموقف التركي من صواريخ «أس-400». وفي هذا السياق، تنقل وكالة «بلومبرغ» عن مسؤول تركي كبير قوله إن أنقرة قد تقدّم تنازلات في هذا الخصوص، كما أن وزير الدفاع التركي، خلوصي آقار، أكّد أن بلاده لن تستخدم هذه الصواريخ إلى الأبد، وأنه يمكن تطبيق نموذج «أس-300» في حزيرة كريت اليونانية، حيث تشارك هذه المنظومة في المناورات العسكرية ولا توضع موضع التشغيل العمليّاتي، إلّا في الحالات النادرة والضرورية، لكن بشرط وقف دعم الولايات المتحدة لقوات «قسد» في شرق سوريا.
اشترط وزير الدفاع التركي وقف دعم الولايات المتحدة لقوات «قسد» لإيجاد حلٍّ لقضية «أس-400»


لكن النفي الأميركي لم يقع موقعاً في آذان الأتراك؛ إذ بادرت أقلام كثيرة إلى كشف ما وراء كواليس انقلاب 15 تموز، بالقول إن بايدن كان في زيارة لتركيا في منتصف كانون الثاني/ يناير 2016 (قبل الانقلاب بستة أشهر)، حيث التقى بأعضاء ينتمون إلى جماعة فتح الله غولين. وقد نقل أحدهم عن نائب الرئيس الأميركي، في حينه، قوله لابن الصحافي جان دوندار الذي هُرِّب إلى ألمانيا بعد الكشف عن شحنات الأسلحة التركية إلى سوريا: «هذا الرجل (إردوغان) لا يصغي إلينا. لكن رائحة تنبعث داخل القوات المسلحة التركية». حتى وزارة الخارجية التركية دخلت، في مسألة انتقاد الغرب لأحداث جامعة «بوغازيتشي»، على الخطّ ببيان وصفه الكاتب المعروف مراد يتكين وآخرين، بأنه»حربي» ولا يمتّ إلى تقاليد اللغة الدبلوماسية بصلة.
بادرت تركيا إلى اتهام أميركا مجدّداً، بعد أقلّ من أسبوعين من وصول بايدن إلى السلطة، وبعدما أطلق مسؤولو إدارته مواقف سلبية تجاه أنقرة في أكثر من موضوع. وتعتمد هذه الأخيرة سياسة الهجوم كخير وسيلة للدفاع؛ إذ يُعتقد على نطاق واسع أنها، مع اتهامات صويلو، تستهدف أكثر من عصفور بحجر واحد:
في الهدف الأوّل، إحراج واشنطن لتسليم أنقرة الداعية فتح الله غولين الذي غادر عام 1999 تركيا إلى الولايات المتحدة، ولا يزال مقيماً من حينه في ولاية بنسلفانيا. ويكتب نديم شينير، في صحيفة «حرييت»، أنه إذا كانت أميركا فعلاً غير متورّطة في الانقلاب، فعليها أن تسلّم غولين. ولكنه يقول إنها لم تُسلّمه لأنها تخاف ممّا سيكشفه من أدوار لها. وفي صلة بهذا الموضوع، حذّر وزير الدفاع التركي من نشاط جماعة غولين في ألمانيا. وقال، في حوار مع صحيفة «حرييت»، بعد عودته من برلين، إنه حذّر نظيرته الألمانية، آنغريت كارينباور، من أن جماعة غولين تعمل في بلادها، وأن الحكومة لا تعرفهم ولا كيف يعملون، وأنه بعد خمس سنوات سيجلبون البلاء لألمانيا.
وفي الهدف الثاني، فإن الاتهام التركي لأميركا جاء بعد تعاظم حركة الاحتجاجات في جامعة «بوغازيتشي» على خلفية تعيين إردوغان عميداً جديداً للجامعة من خارج كادرها التعليمي وموالياً له. وتركيا منزعجة خصوصاً من احتضان الإعلام الغربي للاحتجاجات، بل إن وسائل الإعلام الموالية لـ»حزب العدالة والتنمية» بدأت تتّهم الأميركيين بمحاولة خلق «انتفاضة غيزي» ثانية، بعد الأولى التي حصلت في حزيران/ يونيو 2013، وذلك بإيعاز من بايدن. ويكتب إبراهيم قره غول، في صحيفة «يني شفق»، أن الذراع الداخلية للمحاولات الجديدة ضدّ إردوغان تضمّ «حزب العمال الكردستاني» (يقصد «حزب الشعوب الديموقراطي» الكردي) و»حزب الشعب الجمهوري» و»الحزب الجيّد» وجماعة فتح الله غولين). والهدف، كما يقول، وقف صعود تركيا وتجربة وسائل جديدة لإسقاط رئيسها، وفرض الوصاية من جديد عليها وحبسها في داخل الأناضول.
ويستهجن الكاتب برهان الدين دوران، في صحيفة «صباح»، «القلق» الذي تبديه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي إزاء أحداث جامعة «بوغازيتشي». ويقول إن أميركا وفرنسا وبريطانيا يجب أن تنظر أوّلاً إلى ما جرى فيها قبل فترة، سواء ما يتعلّق بـ»السترات الصفر» في فرنسا، أو الهجوم على مبنى الكونغرس الذي وصفته واشنطن نفسها بأنه محاولة انقلابية وتمرّد وعمل إرهابي. ويضيف دوران أن هؤلاء يعرفون أن احتجاجات «بوغازيتشي» أصبحت رهينة اليسار المتطرّف، وبتحريض من خارج الجامعة، وأن ما تفعله الدولة في تركيا يستهدف ضرب التحريض، وليس الطلاب أنفسهم، وعلى الغرب أن يتخلّى عن إعطاء دروس في الديموقراطية.