«في غرفة الانتظار». هكذا يبدو ملف ترسيم الحدود البحرية مع فلسطين المحتلة، الذي دخل مُنعطفاً جديداً، إثر «انسحاب» العدو الإسرائيلي من جولات التفاوض غير المُباشر، وتعليق الجانب الأميركي وساطته، بعدما طرح لبنان خطاً جديداً للتفاوض (خط 29)، مبنياً على أسس قانونية تؤكّد حقه بمساحة 1430 كيلومتراً مربعاً، تُضاف إلى مساحة الـ 860 كيلومتراً المتنازع عليها (المساحة بين الخط 1 ــــ وهو الخط الإسرائيلي، والخط 23، أي الخط اللبناني المُعلن). إلى حين أن يُعاد تحريك الملف، يحتاج لبنان إلى ما يدعم هذا الطرح، بحيث لا يستطيع العدو نسفه بأي حجة، كما حاول أن يفعل في الجولتين الثالثة والرابعة من المفاوضات (الجلسة الأخيرة التي انعقدت في 11 تشرين الثاني الماضي).هذا الأمر يقع على عاتق القوى السياسية، غير أن المسؤولية الأكبر تتحمّلها حكومة الرئيس حسان دياب التي لها وحدها صلاحية تدعيم الموقف، وفق ما تقول مصادر رفيعة المستوى، على بيّنة من ملف التفاوض، مُختصِرة الأمر بإصدار مرسوم جديد يعدّل المرسوم 6433 الذي يحدد المنطقة البحرية، وتضمينه 1430 كيلومتراً إضافياً جنوبي النقطة 23، وإبلاغ الأمم المتحدة بذلك عملاً بالمادة 74 من قانون البحار. هذا الاقتراح لا يزال محط خلاف، إذ لا يؤيده رئيس مجلس النواب نبيه بري، فيما الرئيس دياب يشترط إجماعاً داخلياً عليه لعقد جلسة لمجلس الوزراء.
وسط هذه الوقائع، طُرِحت أسئلة كثيرة حول الدافع من وراء طرح خطّ لبناني جديد، وعمّا إذا كان بالإمكان تحصيله، فيما العدوّ يرفض أساساً التفاوض على الـ 860 كيلومتراً. مَن كان صاحب الفكرة وعلى أي أسس قامت؟ وهل يصحّ وضع سقف حدودي يُعطي لبنان في البحر نصف حقل «كاريش» الذي بدأ العدو التنقيب فيه عن الغاز؟ كيف سيكون موقف لبنان فيما لو اضطر لاحقاً الى القبول بأقل من 2290 كيلومتراً مربعاً على طاولة المفاوضات؟ وهل يُعدّ ذلك تنازلاً عن حقوقه في البحر؟ لماذا لم يُعلَن عن هذا الخط سابقاً خلال التفاوض على اتفاق الإطار؟ لماذا لم يؤخذ بالدراسات التي أعدّها الجيش منذ سنوات، ولا بالتقارير والمراسلات التي وصلت الى وزارة الأشغال والحكومة؟ وما الذي منع لبنان من تعديل المرسوم قبل الذهاب الى مفاوضات الناقورة؟

انقر على الصورة لتكبيرها

كل هذه الأسئلة وأكثر، تبدأ إجابتها من معلومات تؤكد أن الجيش اللبناني، وقبل الانطلاق الى المفاوضات، كان يرفض من الأساس التفاوض على المساحة المتنازع عليها حصراً، لأن ذلك سيُعطي لبنان أقل من 860 كيلومتراً مربعاً. وعليه، أصدرت مديرية التوجيه بياناً في 10 تشرين الأول الماضي، أعلنت فيه أن «قائد الجيش أعطى التوجيهات الأساسية لانطلاق عملية التفاوض بهدف ترسيم الحدود البحرية على أساس الخط الذي ينطلق من نقطة رأس الناقورة براً والممتد بحراً تبعاً لتقنية خط الوسط دون احتساب أي تأثير للجزر الساحلية التابعة لفلسطين المحتلة، استناداً إلى دراسة أعدّتها قيادة الجيش وفقاً للقوانين الدولية». وهذه العبارة هي ترجمة لخط الـ 29، المسنَد الى دراسة قدّمها الخبير جون براون، من مكتب الهيدروغرافيا البريطاني (UKHO) قبل صدور القانون 163 (قانون تحديد وإعلان المناطق البحرية للجمهورية اللبنانية الصادر عام 2011)، وأوضح فيها أن بإمكان لبنان اعتماد خيارين جنوبي النقطة (23) من خلال إعطاء صخرة «تخيليت» نصف تأثير أو عدم احتسابها كلياً، وهذه الدراسة تُمكّن لبنان من كسب حوالى 1400 كيلومتر مربع إضافي. ولا بد من الإشارة إلى أن ما يسمّيه العدو جزيرة «تخيليت»، ليس سوى نتوء صخريّ.
في الشق التقني، تقول معلومات «الأخبار» إن الطرح اللبناني بشأن الخط 29 لم يُعلَن في الجلسة الأخيرة من المفاوضات. في الأصل كان الأميركيون في جو التحضير لإصدار مرسوم جديد بدأ قبل ستة أشهر من إعلان اتفاق الإطار، إذ كان رئيس الجمهورية العماد ميشال عون يريد عرضه من خارج جدول الأعمال، على جلسة لمجلس الوزراء في 21 تموز 2020، وهو ما لم يحصل لغياب التوافق حوله. وبما أن المرسوم الجديد لم يصدُر، كان الظنّ بأن لبنان ذاهب الى التفاوض وفق المرسوم الرقم 6433 بالخط (23).
بحسب المعلومات، طرح الوفد اللبناني المفاوض الخط 29 في جولة التفاوض الثانية. وقد ردّ الوسيط الأميركي خلال الجلسة بالقول: «نعلم بأن لديكم خطاً واحداً (الخط 23) وهو المودع في الأمم المتحدة، كما لدى «إسرائيل» الخط 1، ونحنُ هنا للتفاوض على المساحة الواقعة بينهما (860 كيلومتراً)». في الجولتين الثالثة والرابعة، قدّم الوفد اللبناني خرائط تؤكد أن الخط 29 هو الخط الصحيح، وذلك استناداً إلى دراسة المكتب البريطاني واتفاقية جنيف واتفاقية قانون البحار وأحكام محاكم القانون الدولي، بما يضرب أسس الخطين 1و23. وأكد الوفد اللبناني أنه جاهز للتفاوض انطلاقاً من الطرح الجديد.
في الجولة الأخيرة، قدّم الوفد اللبناني عرضاً لطرحه مجدداً، مشدداً على أن الاتفاقيات المذكورة لا تعطي صخرة «تيخيليت» أي تأثير، متوجهاً الى الوسيط الأميركي بالقول: «إذا كان لديكم ما يؤكد احتساب تأثير الجزر فتقدموا به»، لكن حجة الجانب الإسرائيلي ركنت الى الحدود شمالاً مع سوريا وبأن الجزر الموجودة هناك جرى احتسابها «علماً بأن الوضع مختلف تماماً، لأن الجزر اللبنانية الشمالية مستثمرة سياحياً، ومساحتها تفوق مساحة «تيخيليت» بأضعاف، فيما جزيرة أرواد السورية جزيرة مأهولة. اما «تيخيليت»، فليست سوى صخرة تغمرها الأمواج عند هبوب الرياح».
ما طرحه لبنان وأصر عليه، دفع بالعدو الإسرائيلي الى تسريب معلومات عبر إعلامه، (صحيفة «إسرائيل هايوم»)، تتحدث عن أن الردّ الإسرائيلي على الطرح اللبناني سيكون بتقديم خط جديد للترسيم (الخط 310)، ما يعني تجاوز كل الخطوط السابقة التي حددها لبنان أو حدّدها العدو الى الداخل اللبناني، وذلك بعدما كان النقاش محصوراً بين خطّي النقطتين 1 و23 (حيث مساحة الـ 860 كيلومتراً مربعاً). والخط الجديد الذي لوّح به العدو يصل إلى ما بعد المنطقة المواجهة لمدينة صيدا شمالاً. وعليه جرى تجميد التفاوض، وتبعه ضغط أميركي على لبنان تولّته السفيرة الأميركية في بيروت دوروثي شيا للعودة الى الخط 23، وهو ما رفضه لبنان.

ترسيم الحدود... كنيترات الأمونيوم
لكن في موازاة الإصرار اللبناني، يتبيّن من خلال الوقائع أن التعامل مع هذا الملف شبيه بالتعامل مع ملف نيترات الأمونيوم التي أدت الى انفجار المرفأ. مراسلات جرى تجاهلها وإهمال إداري، في حال استمراره قد يؤدي الى خسارة لبنان لمساحة كبيرة من حقه في المنطقة الاقتصادية.
هذه الوقائع تكشف بأن الحديث عن تعديل المرسوم بدأ خلال جلسة للجنة الطاقة والمياه في حزيران عام 2011، وكان يرأسها حينذاك النائب السابق محمد قباني. في تلك الجلسة، عرض الوزير طارق المجذوب (كان قاضياً في مجلس شورى الدولة) تقرير المكتب البريطاني الذي يؤكد ضرورة التعديل، لكن كلامه لم يؤخذ به، وصدر المرسوم الرقم 6433 (الخط 23).
تقرير المكتب البريطاني لم يكُن وحده الذي يؤكد أحقية لبنان بالخط 29. إذ تضاف إليه دراسة أعدّها العقيد الركن البحري مازن بصبوص وأرسل نسخة منها عام 2013 الى وزارة الأشغال لإبداء الرأي، إلا أنها لم تُجِب!
وما بين عامي 2014 و2018، أنشأ الجيش اللبناني مصلحة الهيدوغرافيا في القوات البحرية، وجهّزها بأفضل التقنيات، وأجرى مسحاً لشطّ الناقورة للهدف نفسه. وبعد تقديم التقارير، أرسل وزير الدفاع الياس بو صعب كتاباً إلى الأمانة العامة لمجلس الوزراء (الرقم 5918) في27 كانون الأول 2019، ينقل فيه بأنه «تمّ تشكيل لجنة على صعيد الجيش لمتابعة موضوع الترسيم، وقد رفعت اللجنة محضراً بنتيجة عملها اقترحت بموجبه وضع استراتيجية واضحة واعتماد خريطة طريق موحدة على الصعيد الرسمي حول موضوع الترسيم والاستفادة من المستندات والخبرات المتوافرة لدى الجيش اللبناني، وخاصة أنه تبيّن وجود عدة خيارات في الترسيم تُعطي لبنان مساحات إضافية جنوبي الخط المعلن بموجب المرسوم 6433، نظراً إلى توافر معطيات جديدة لدى مصلحة الهيدوغرافيا في القوات البحرية».
وبعد تأليف حكومة دياب، أعادت وزيرة الدفاع زينة عكر إرسال الكتاب نفسه الى الأمانة العامة للتأكيد عليه. فلماذا جرى تجاهله؟ بحسب مصادر مطلعة، فإن عدم عقد جلسة وزارية لبتّ تعديل المرسوم سببه عدم التوافق حول هذا الأمر.
الآن، وبعد تعليق المفاوضات عاد موضوع تعديل المرسوم الى الواجهة، وفُتِح النقاش به، لكن الرئيس دياب اشترط تأمين التوافق. وقد تولّت الوزيرة عكر ورئيس الوفد اللبناني المفاوض العميد بسام ياسين التشاور مع الرئيس بري الذي أكد أن «موقفه معروف». وموقف برّي أن تعديل المرسوم لن يؤدي إلى تحصيل حقوق لبنان، وسيُظهر الحكومة كما لو أنها تتراجع مستقبلاً عن حق لبناني لأنّ أي تفاوض لن يؤدّي إلى منحنا كامل المنطقة التي سيضمّها التعديل إلى المنطقة البحرية الاقتصادية الخالصة، كما أنه سيدفع بالعدو إلى زعم «حقه» في مناطق إضافية شمالاً، ما سيحول دون بدء التنقيب عن النفط والغاز فيها.
الجيش اللبناني كان يرفض حصر التفاوض بالمساحة «المتنازع عليها»


هذا الانقسام سيعود، بحسب المصادر، بنتائج سلبية على لبنان. لماذا؟
تؤكد المصادر أن لبنان بحاجة الى ورقة قوية في يده للضغط على الطرف الآخر. فتعديل المرسوم «يعني إلزام لبنان نفسه رسمياً بالخط 29، وإلزام الآخرين به بعد إيداعه في الأمم المتحدة». كما أن التعديل يؤكد وجود موقفٍ لبناني موحد، إذ «حاول الأميركيون في المرحلة السابقة اللعب على الانقسام وإشاعة معلومات تارة تقول بأن اقتراح التعديل هو طرح أميركي حتى ترفضه أطراف محددة، وتارة أخرى بأنه طرح إيراني يهدف الى نسف المفاوضات»! أما الهدف الأهم من هذا التعديل وفق المصادر، فهو «الضغط على الإسرائيليين للعودة الى المفاوضات». فتثبيت الخط 29 بمرسوم يوسّع المنطقة المتنازع عليها، بشكل يمنع عمل الشركات في الحقول الإسرائيلية الواقعة ضمن هذه المنطقة وعند تخومها في المياه الفلسطينية المحتلة، بسبب عدم وجود استقرار فيها. وبالتالي، فإن الشركات لن تسمح بأن تخسر استثماراتها في هذه المنطقة ويمكن أن تتجه للضغط على الحكومة الإسرائيلية للعودة الى الناقورة. فالخط 29 يدخل الى نصف حقل «كاريش» الذي ستبدأ شركة «انرجين» اليونانية عملها فيه في شهر حزيران المقبل. ولهذه الغاية تقوم الشركة حالياً بتصنيع سفينة خاصة بالتنقيب، في سنغافورة، بقيمة نصف مليار دولار.
هذا الأمر يعني أن «على لبنان الذهاب الى تعديل المرسوم قبل حزيران، لأنه في حال بدأت الشركة بالعمل في حقل كاريش قبل التعديل، فقد يصبح عملها وفقاً للقانون الدولي أمراً واقعاً ولا يُمكن الادعاء عليها». أما في حال التعديل «فسيسبّب هذا الأمر قلقاً لدى الشركة بسبب المبالغ الكبيرة التي تستثمرها للعمل في منطقة غير مستقرة، كما لدى الجانب الإسرائيلي الذي سيجِد نفسه مرغماً للعودة الى طاولة المفاوضات».
وفي هذا الإطار، تقول المصادر إن حكومة دياب اليوم تتحمّل رسمياً وإدارياً مسؤولية التعديل، وإن على رئيس الحكومة الدعوة الى جلسة استثنائية لبتّ هذا الموضوع، وإلا فإن الخسارة في البحر لن تقلّ عن الخسائر التي تسبب بها تفجير مرفأ بيروت!
يبقى استفسار إضافي بحاجة إلى إجابة: في حال إصدار المرسوم والعودة الى طاولة المفاوضات للمطالبة بمساحة 2290 كيلومتراً مربعاً، كيف سيُبرّر لبنان موقفه إذا لم يسترجعها كاملة؟ ألن يظهر بمظهر المتنازل عن حقه؟
تقول المصادر إن هذه النظرية، أي وضع خط والتراجع عنه، ينسحب على البرّ، لأن الخطوط متفق عليها والحدود معترف فيها. لكن الخطوط في البحر يُعلنها كل طرف من جانبه، وفي النزاعات البحرية. ووفقاً للمادة 74 من قانون البحار، تطالب كل دولة بالحد الأقصى، للوصول الى اتفاق مشترك في ما بعد، ولا يُعدّ ذلِك تنازلاً.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا