المفارقة في لبنان أنّه كلّما تفاقمت حدّة الأزمة، وتضاعفت معها الحاجة إلى وجود سلطة تنفيذية، ازداد «تعنّت» القوى السياسية الأساسية. يرفعون سقف تفاوضهم، مُنتظرين «العرض» الأفضل، كما لو أنّهم مُنفصلون عن الواقع اللبناني. مرّ «قطوع» 20 كانون الثاني، تاريخ انتقال الحُكم في الولايات المتحدة الأميركية إلى الرئيس جو بايدن، وهي «الحُجّة» التي تمترس خلفها البعض، وخاصة رئيس الحكومة المُكلّف سعد الحريري لتأخير تقديم تشكيلة وزارية. وداخلياً، كلّ القوى باتت تعرف «شروط» بعضها البعض، وما هي طلباتها. القصة لم تعد بحاجة سوى إلى «التواضع» قليلاً، والاستفادة من «الوقت الضائع» الأميركي للانتهاء من هذا الملفّ، لأنّ المسائل الصحية والاجتماعية والمالية والنقدية والاقتصادية لم تعد تحتمل أي تأجيل، ولا تملك البلاد ترف انتظار عودة «الكيمياء» إلى العلاقة بين رئيس الجمهورية والتيار الوطني الحر من جهة، وتيار المستقبل من جهة أخرى. كما أنّ الرأي العام «ملّ» من لعب النائب السابق وليد جنبلاط عند كلّ منعطف دور المُحرّض ضدّ حزب الله، من باب حلفه مع إيران وسوريا، واتهامه بالسيطرة على القرار المحلّي، قبل أن «يلجأ» إلى رئيس مجلس النواب نبيه برّي، طالباً وساطته لترتيب العلاقات بينه وبين حزب الله. هي الأسطوانة نفسها يُكرّرها الجميع.أكثر من جهة حاولت في الأسابيع الماضية العمل على مبادرة أو وساطة لتليين الأجواء بين الرئيس ميشال عون والحريري، لتدوس في كلّ مرّة على لغم: تصريح، تسريب فيديو، كلام «المصادر». لكن، علمت «الأخبار» أنّ حزب الله سيستأنف مسعاه في الساعات المُقبلة للتوافق على تشكيلة حكومية. وتوضح مصادر مطلعة أنّ ما يقوم به حزب الله هو «مسعى وليس مبادرة، التي عادة ما تتضمن بنوداً عدّة، أو وساطة تكون قائمة على نقل رسائل من جهة إلى أخرى». المحاولة التي يقوم بها حزب الله «هدفها حصراً خلق ثقة ما بين الرئيس عون والحريري، بعدما تحطّمت هذه الثقة، فيما الوضع شديد الخطورة ما بين الأزمة الاقتصادية ــــ المالية ــــ النقدية والكارثة الصحية». هذه أزمات ستكون معالجتها «صعبة بوجود حكومة، فكيف الحال والبلد يفتقر إلى سلطة تنفيذية؟». وتُوضح المصادر أنّ حزب الله كان ينوي بدء مسعاه قبل إعلان البطريرك مار بشارة بطرس الراعي تحرّكه لإنتاج تسوية، «ففضّل حزب الله البقاء جانباً إفساحاً في المجال أمام الراعي. حالياً، كلّ المبادرات توقّفت ولم تصل إلى نتيجة، فقرّر حزب الله العودة إلى إطلاق المسعى، وخاصة أنّه لم يعد من الممكن التذرع بضغوط خارجية بعد مغادرة دونالد ترامب الرئاسة الأميركية، ويُفترض أن يكون الحريري قد بات أكثر تحرّراً».
ما يقوم به حزب الله هو مسعى وليس مبادرة أو وساطة


لكن، حتى لو أن الحريري بات أكثر اقتناعاً بضرورة تحمّل مسؤولياته وتأليف الحكومة، إلا أنّ ذلك لا يعني تحرّره من الضغوط نهائياً. عبّر جنبلاط عن ذلك أمس بقوله «إذا كان الشيخ سعد يريد مشاركة هؤلاء، أنصحه «بلاها»، وإذا كان مُصرّاً فليُكمل. يا شيخ سعد، هم لا يريدونك، فليحكموا وسنرى لاحقاً إذا ما سينجح هذا الحكم. برأيي لن ينجح فمشروعهم تدمير وإفقار». وأضاف جنبلاط في حديث إلى «صوت كلّ لبنان» إنّه «صاحب نظرية خلّيهم هنّي يحكموا… فليتسلّموا كلّ البلد بكل مفاصله، وليتحمّلوا مسؤولية الربح أو الخسارة، لماذا نشارك نحن ولا نتسلّم أي شيء؟»، قبل أن يلفت إلى أنّه صاحب نظرية أخرى (يصدف أنّها تتعارض مع الأولى)، «وهي التسوية. لا بدّ من تسوية بما يتعلّق بالحكومة… لا أحد مهتم بلبنان. كان هناك شيء من الاهتمام من قبل فرنسا ولا يزال، لكن علينا أن نهتم بأنفسنا وبحلّ العقد الداخلية». يتصرف جنبلاط كمن يوصل رسالة إلى المعنيين مفادها: «أعطوني المقعد الوزاري الذي أريد، ولا تُخصّصوا حقيبة لأخصامي في الطائفة، وستنالون سكوتي». خلال مقابلته، زعم جنبلاط وجود «غرف سوداء. هناك سليم جريصاتي والمدام عون (القاضية غادة عون)، يتحكّمان بالقضاء ويحكمان، وهناك غرف عسكرية غريبة عجيبة»، قبل أن ينتقل إلى التصويب على حزب الله، واصفاً إياه بأنّه «حزب قوي جدّاً ومن خلفه دولة قوية جدّاً اسمها الجمهورية الإسلامية. فهل تعترف بلبنان الكبير، أم أننا نحن فقط مقاطعة من المقاطعات من الجمهورية الإسلامية بين لبنان وسوريا والعراق؟ هذا السؤال».
هاجم جنبلاط في مقابلته النائب جبران باسيل، مُتهماً إياه بعرقلة الحكومة. ليس في ذلك أي «جديد»، فقد بات هناك جوّ مُعمّم في الوسط السياسي والبلد أنّ باسيل وحيداً يتحمّل مسؤولية التعطيل. قوى إقليمية، وتحديداً فرنسا، تسأل بشكل مباشر عن تفاصيل لها علاقة بالتأليف وبالدور الذي يقوم به باسيل. كما أنّ البطريرك الراعي وجّه عتباً لمقرّبين من رئيس الجمهورية حول طريقة مقاربة الملفّ الحكومي. كلّ هذه الأمور دفعت عون إلى إصدار بيان أمس، نفى فيه أن يكون قد طلب الحصول على الثلث المعطل، مؤكّداً أنّ باسيل «لم يتعاط في عملية التشكيل مطلقاً». أما بالنسبة إلى حزب الله، «فلا يتدخل في أي قرار لرئيس الجمهورية، بما في ذلك تأليف الحكومة». أمّا في ما يتعلق باختيار الوزراء وتوزيعهم على الحقائب الوزارية، «فإنّ هذا الأمر ليس حقّاً حصرياً لرئيس الحكومة استناداً الى البند الرابع من المادة 53 والبند الثاني من المادة 64 من الدستور، ما يدلّ على أنّ للرئيس عون حقّاً دستورياً بأن يوافق على التشكيلة الحكومية كاملة قبل التوقيع»، خاتماً بأنّ قصر بعبدا «لا يزال بانتظار أن يأتيه رئيس الحكومة المُكلّف بطرح حكومي يراعي معايير التمثيل العادل». النقطتان الأخيرتان أدّتا إلى ردّ الحريري عبر مستشاره الإعلامي، حسين الوجه، فكتب على «تويتر» أنّ «أحداً لا يُناقش في صلاحيات رئيس الجمهورية في إصدار مرسوم تشكيل الحكومة بالاتفاق مع رئيس مجلس الوزراء وفقاً للمادة 53 من الدستور، وعلى توقيع مرسوم التشكيل بعد أن يجري رئيس مجلس الوزراء الاستشارات النيابية لتشكيل الحكومة وفقاً للمادة 64 من الدستور، مع خطّين تحت «لتشكيل الحكومة»… وإذا كانت الظروف ضاغطة جدّاً لتأليف الحكومة، فالأجدى بمن يعنيهم الأمر السير بطرح رئيس الحكومة المُكلّف الموجود لدى الرئاسة الأولى الذي يُراعي التمثيل العادل وفقاً للدستور، وليس وفقاً للحصص السياسية والحزبية»، سائلاً إن كان التوضيح «من رئاسة الجمهورية، أم نفي باسم الوزير جبران باسيل؟».