الشحّ في الدولارات لدى مصرف لبنان، الناتج أولّاً عن تبذير أموال المودعين التي أودعتها المصارف لديه، وثانياً عن تراجع التحويلات المالية إلى «المركزي»، كان لها انعكاسات على البعثات الدبلوماسية اللبنانية في الخارج. للمُشكلة شقّان؛ الأول عام وشامل لكلّ البعثات بأنّها تتأخّر في تلقّي الأموال المُدرجة في موازناتها (أي المُخصّص لكلّ المصاريف باستثناء رواتب الدبلوماسيين والموظفين المحليين). «غالباً ما يتمّ التأخر في إرسال المصاريف المالية للسفارات لأسباب إدارية، ولكن في هذه المرحلة أُضيف إليها منع مصرف لبنان التحويلات إلى الخارج»، تقول مصادر في وزارة الخارجية والمغتربين. الشقّ الثاني من الأزمة خاصّ بالسفارات اللبنانية لدى الدول التي فرضت عليها الولايات المتحدة الأميركية عقوبات اقتصادية: كوبا، فنزويلا، إيران، سوريا. البعثات الدبلوماسية في تلك البلدان تُعاني من «ظُلم» مصرف لبنان، الذي قرّر الامتثال للقرارات الأميركية وعدم تحويل أي أموال إليها، رافضاً حتّى تسليمها الدولارات نقداً، أو مساعدتها في البحث عن حلول بديلة لضمان تأمين وصول الأموال إليها بما لا يُعرقل ديمومة عملها. فإذا كان «مفهوماً» أنّ مصرف لبنان «غير قادر» على مُعاندة النظام المالي العالمي الذي تُسيطر عليه الولايات المتحدة الأميركية، وبالتالي عدم تحويل الدولارات عبر مصارف مُراسلة حتى لا تُفرض عقوبات عليه، يبدو مُستغرباً أن «يُعارض» أي حلّ بديل يلتفّ على العقوبات الأميركية ولا يضعه في «عين العاصفة»، مُعتبراً أنّ أي قرار من هذا النوع يعني «كسر الحصار المفروض على تلك الدول»، تقول مصادر دبلوماسية. إقفال «المركزي» أبوابه بوجه السفارات اللبنانية أدّى إلى منع حصول دبلوماسيين وموظفين محليين في تلك الدول على رواتبهم، وباتوا يبحثون في تقديم طلب لنقلهم إلى مراكز عمل أخرى. وتتوسّع الكرة، لتشمل تأخّر دفع إيجارات المقار الدبلوماسية لأشهر عديدة، وعقد «تسويات» مع الدول التي تستضيفها من أجل الحصول على «فترة سماح». تُحاول الإدارة المركزية التوصّل إلى اتفاقيات مع بعثاتها في الخارج لتستمر بـ«اللحم الحيّ»، ولكنّ المعضلة تبقى في طريقة تصرّف مصرف لبنان معها، وإصراره على «إقفال الحنفية» نهائياً. العقوبات الأميركية على كوبا وفنزويلا وإيران ليست جديدة، ومنذ فرضها لاحت مُشكلة التحويلات المالية إليها. لم يُشكّل الموضوع «أزمة» في حينه، بسبب إيجاد قنوات بديلة، أبرزها فتح حسابات لتلك السفارات في دول مُجاورة لها يتمّ تحويل الأموال عبرها، أو الاقتراض من واردات البعثات الدبلوماسية اللبنانية في الخارج، ولا سيّما في فنزويلا وإيران. أما في كوبا، فتملك البعثة اللبنانية لديها حساباً مصرفياً يتمّ تحويل الأموال إليه باليورو، ولا يزال موجوداً حتى اليوم... فارغاً من الأموال بسبب إجراءات مصرف لبنان. قبل قرابة أربع سنوات، ومع تشديد الخناق الأميركي على كوبا وفنزويلا، توقّف «دوتشيه بنك» (مصرف المُراسلة الذي كان يتركّز التعامل معه) عن تحويل الأموال إليهما، وامتنع المصرف الألماني حتّى عن تحويل الدولارات إلى الجُزر الكاريبية المُجاورة لفنزويلا، والتي فتحت فيها البعثات الدبلوماسية العاملة في كاراكاس حسابات مصرفية، ومن بينها اللبنانية. كردّ على هذا القرار، فتحت وزارة الخارجية والمغتربين حسابَين لبعثتَي لبنان في كاراكاس وهافانا لدى أحد المصارف التجارية اللبنانية. بالنسبة إلى كوبا، كان يتمّ التحويل من لبنان إليها عبر مصارف مراسلة كندية وأوروبية غير مُمتثلة للعقوبات الأميركية على البلد اللاتيني. أما في فنزويلا، فأعطت الإدارة المركزية موافقتها على إرسال المال للبعثة عبر الحقائب الدبلوماسية، أو تسديد المبلغ في لبنان للجهة التي تقبل أن تُسلّف السفارتَين اللبنانيتَين المال.
لم يكن تأمين النقود سهلاً، ولكن الحلول البديلة أسهمت في عدم انحراف القطار عن السكّة... إلى أن انفجرت الأزمتان المالية والنقدية نهاية سنة 2019، وفرضت المصارف قيوداً غير قانونية على التحويلات إلى الخارج، وتوقفت عن إعطاء الأموال للمودعين (ولا سيّما بالعملات الأجنبية)، ومن بينهم البعثات اللبنانية في الخارج. احتُجزت أموال سفارات لبنان لدى كوبا وفنزويلا وإيران في المصارف اللبنانية، قبل أن تضاف إليها قبل قرابة ثمانية أشهر السفارة اللبنانية لدى سوريا. آلاف اليوروات موجودة في المصرف اللبناني، يمتنع عن تسليمها إلى البعثات الثلاث، وما زالت «دفترياً» مُسجّلة في ميزانيته. سُلّمت إلى «المركزي» لائحة بالمصارف الأجنبية التي تتعامل مع فنزويلا وكوبا، ولكنّه أصرّ على تحويل المبلغ عبر «دوتشيه بنك» رُغم علمه بأنّ الأخير أوقف تعامله مع الدولتين اللاتينيتين، فعادت الأموال إلى خزينة الدولة. المُحاولة الثانية، كانت الطلب من مصرف لبنان تسليم الدولارات نقداً، فرفض مُتحجّجاً بأنّه «لا يملك الكاش»، علماً بأنّه خلال السنة المُنصرمة، لم يتوقّف «المركزي» عن النهل من الدولارات التي أودعتها المصارف لديه (أي أموال الناس)، مُشاركاً في المُضاربة بـ«سوق الدولار» وتسديد التزامات خارجية عن المصارف، وتسديد ودائع استحقت، والتمييز بين المودعين عبر القبول بتحويل حسابات لعدد من النافذين، ولكنّه لا يُمانع فرض حصارٍ على بعثات دبلوماسية تُمثّل مصالح الدولة اللبنانية في الخارج، ومُستثناة في القانون الدولي من أي إجراءات تقييدية. ورغم إيجاد «الخارجية» لحلول بديلة، لا تؤثّر على «التزام» مصرف لبنان بالقوانين الأميركية ولا تُشكّل له أي إحراج مع «أصدقائه»، ولكنّه مُصر على «عدم إغضاب الأميركيين عبر مُعارضة كلّ قناة بديلة يكتشف أنّه يتم تحويل الأموال عبرها إلى السفارات الأربع».
طلبت «الخارجية» من السفراء عدم تسديد أي فواتير قبل صدور الموازنة الجديدة

في كوبا وفنزويلا وإيران، يُحاول السفراء العمل بـ«اللحم الحيّ»، أما الوضع الأكثر سوءاً فهو في سوريا، التي لم تُدفع في البعثة اللبنانية لديها أي مصاريف منذ قرابة سبعة أشهر. لا يُريد الحاكم رياض سلامة الاقتناع بأنّ حصول البعثات على الدولارات «لا يعني ضخّ الأموال في اقتصادات الدول الأربع، ولا يُعتبر مساعدة لها، أو كسراً للعقوبات».
من جهته، ينفي وزير الخارجية والمغتربين شربل وهبة عِلمَه بمشاكل من هذا النوع تواجهها السفارات. يقول إن «مصرف لبنان يُرسل الأموال إلى كلّ الحسابات التي تملكها البعثات الدبلوماسية. أنا كوزير لم يعترض أحد لديّ، ولم يُبلغني أحد بوجود تأخير في تسديد المصاريف»، على الرغم من أنّ معلومات «الأخبار» تؤكّد إرسال الدبلوماسيين لرسائل اعتراض إلى الوزير، وعقْد مدير الشؤون الإدارية والمالية السفير كنج الحجل اجتماعاً مع رياض سلامة لمحاولة التوصّل إلى حلّ، من دون أن يُثمر شيئاً إيجابياً. أما بالنسبة إلى أزمة الدولارات لدى «المركزي»، وفي حال لم يعد قادراً على تسديد مصاريف البعثات في الخارج، خاصة أنّ الوزارة طلبت من السفراء عدم تسديد أي فواتير قبل صدور الموازنة الجديدة، فيقول وهبة إنّ «الأمر لم يُطرح بعد، ولكن أنا لن أترك الدبلوماسيين عرضة للبهدلة. في حال لم يعد هناك دولارات، أُقفل السفارات وأُبقي على عدد محدود لترتيب شؤون لبنان الخارجية، ولكن هذا القرار بحاجة إما إلى قرار من مجلس الوزراء أو موافقة استثنائية».

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا