ليس محمد خاروكي، الطفل الدمشقي ذو السنوات العشر، بلاجئ في بلاد الأرز، بل هو آتٍ إليها برفقة والديه اللذين انتقلا للعمل فيها منذ ثلاث سنوات. أمضى محمد السنتين الأخيرتين تقريباً في مدرسة «ليسيه فينيكس» في دوحة الحص، حيث خبر الاستعلائية والعدائية اللبنانيتين بشكلهما «الصافي» غير المشذب أو المموّه، أي كما يعبّر عنهما الأطفال والأولاد، بعد تشرّبهم لـ«سرهما» الفج العاري من أهاليهم.
تشهد لخبرة محمد الكدمات والخدوش على وجهه، إذ تكللت معاناته من المضايقات والإهانات اليومية في المدرسة بتعرضه للضرب المبرّح في باص المدرسة أول من أمس، و«ذنبه أنه لم يقبل بإهانة كرامته وسوريته»، تقول والدة الطفل.
لطالما اشتكى محمد من المضايقات والإهانات التي يتعرض لها باستمرار في المدرسة، وفي الباص خصوصاً، حيث تبدأ رحلته اليومية لحظة صعوده الباص بعبارات من قبيل «يلّا ولا سوري»، وينادى بـ«يا سوري يا أندبوري»، ويُحشر مع بعض الأطفال السوريين زملائه في أضيق مساحة ممكنة على مقاعد الباص، ويأمره أولاد بأن «يخرس»، ويوجه إليه آخرون عبارات نابية، ويقول له ولد عمره 15 أو 16 سنة، «كنت لأنتحر لو كانت والدتي سورية»، وهكذا!
صار الطفل دائم العصبية، تقول والدته، وبات ينفجر باكياً بمجرد الحديث معه، ويكرر رفضه الذهاب في الباص، ويلحّ على مغادرة لبنان والعودة إلى الشام. ذهبت الوالدة مرات عديدة إلى المدرسة في الأشهر الماضية، وأعطت الإدارة أسماء الأولاد الذين كانوا إلى ذلك الحين يكتفون بالاعتداء اللفظي على طفلها، مع بعض «التدفيش»، ولكن الإدارة لم تحرك ساكناً. تقول الوالدة إنها لم تُصدق أنه يمكن أولاداً أن يبلغوا هذا المستوى من العنف، حتى وقع الاعتداء بالضرب أول من أمس.
تطورت المضايقات بحق الطفل وأترابه السوريين مع تصاعد حملة التحريض السافر على اللاجئين السوريين في الإعلام وعلى منابر السياسيين، والأخطر منها التعبئة الجماهيرية المباشرة على الأرض، التي تأخذ شكل التحريض «العنصري» السافر الذي يُسقط إنسانية المحرَّض عليه، ويبرر ويمهد لمختلف أشكال السلوك الإجرامي ضده. تُشير والدة الطفل في هذا السياق إلى المقابلات التلفزيونية التي تدّعي «الموضوعية» بنقلها آراء الناس في الشارع، فتبث على نطاق واسع الانفعالات التحريضية من قبيل صيحات «البلد إلنا» و«السوريين خربوا البلد»، فتجعلها جزءاً مألوفاً من الخطاب العام الذي يتشربه الأولاد عن أهاليهم ويرددونه. يقول الطفل محمد إن عدائية زملائه في المدرسة تصاعدت بشكل كبير في العام الأخير، ما يؤكد تطور انفعال هؤلاء الأخيرين بتصاعد حملة التحريض العنصري في البلاد عامة، حتى صاروا يقولون له في الأشهر الأخيرة «شو مقعّدكم عنّا؟ بدنا نخلص منكم»! فلم يكن غريباً أن تتطور المضايقات والإهانات «المعهودة» أول من أمس إلى الضرب المبرّح، من دون أن يتدخل سائق الباص حتى!
ليست الخدوش والكدمات أكثر ما يؤلم محمد، بل الإهانة. يرفض الطفل البقاء في لبنان، لا المدرسة فقط؛ فهو يتحسّس، رغم صغر سنه، المعاملة «المميزة» التي يلقاها وعائلته على حواجز التفتيش الأمنية وفي الحديقة قرب شقته حيث يلعب، بمجرد سماع لكنتهم الشامية. تقف والدة محمد عند هذا الموضوع بالذات، مذكّرة بأنها وعائلتها ليسوا بلاجئين، وبالتالي لا يشكلون عبئاً على الدولة «المضيفة» وموازنتها، بل هم من الطبقة الوسطى، قاطرة الإنفاق الاستهلاكي في لبنان السياحة والخدمات. فالاستعلائية والعدائية اللتين يلقونهما هما «عنصرية» إذاً، ولا يمكن تفسيرهما على أي نحو آخر!
أجرى ذوو محمد اتصالات مع مراجع رسميين عديدين بعد الاعتداء على ابنهم بالضرب، واتصل وزير التربية بمدير مدرسة «ليسيه فينيكس»، عادل عواد، فقال الأخير إن ما حدث هو «إشكال بين أولاد صغار»، وإنه «لا عنصرية في الموضوع»، بل ادّعى أن الطفل محمد لم يُضرب حتى! ذهبت الوالدة إلى المدرسة أمس، فتغيّرت «نغمة» المدير: «لا أملك عصىً سحرية» لإصلاح لبنان، قال عواد، ملقياً بالمسؤولية على «السياسيين»، وقد أصاب في ذلك!
لا يمكن فصل العنصرية اللبنانية تجاه «السوري» و«الفلسطيني» عن عنصرية الطوائف اللبنانية بعضها تجاه بعض: هي الثقافة نفسها التي تمنع تشكل هوية جامعة للكيان اللبناني، وتمنع ائتلاف الناس على أساس مصالحهم الحياتية وبنائهم لدولتهم هم، لا دولة الأوليغارشيا الحاكمة، وهي الثقافة نفسها التي تغذي الأزمات المستدامة للكيان اللبناني، وتعبّئ المتقاتلين في الحروب الأهلية العبثية.